شكل احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عقب حرب حزيران العام 1967 استكمالاً للمشروع الإحلالي الاستعماري الذي نضجت أولى ثماره مع النكبة. وفيما كانت الخطة منذ البداية التهام كل فلسطين وفق حدودها الانتدابية، فإن الإجهاز على ساحلها الجنوبي الذي بات يعرف بعد ذلك بقطاع غزة والضفة الغربية لنهر الأردن كما باتت تعرف أيضاً بعد ذلك، تأخر وظلت المنطقتان الجغرافيتان خارج نطاق الدولة العبرية الوليدة. وبالطبع يجب ألا ننسى منطقة الحمة التي ظلت تحت السيطرة السورية. أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح عند مراجعة هذا التاريخ، لكن المؤكد أن القوات العربية كان يمكن لها أن تحتفظ بأكثر من ذلك بكثير، ناهيك على أن حسم الحرب لصالح العصابات الصهيونية وإعلان إسرائيل وعدم إعلان فلسطين بحاجة لفهم أعمق.
المؤكد أيضاً أن أهم تبعات استكمال إسرائيل لاحتلالها لكل فلسطين بعد حرب حزيران لم تكن عملية الاستكمال تلك، بل كانت التأكيد على نتائج حرب 1948. بمعنى أن ما حدث لحظة النكسة هو التأكيد على الوضع الذي ترتب على النكبة. صحيح أن المجتمع الدولي لم يكن في ذلك الوقت حتى نهايات الستينيات مستعدا لتفهم المطالب الفلسطينية، ناهيك عن سماع الرواية الفلسطينية عما حدث، وصحيح أن أنصار الشعب الفلسطيني في الأوساط الدولية ومؤسسات المجتمع الدولي كانوا قلة، ولكن المؤلم أكثر أن المجتمع الدولي بات في أحسن حالاته يعد الأراضي الذي احتلت العام 1967 أراضي محتلة فيما بقية فلسطين التي تم التهامها أراضي إسرائيلية بحتة. بكلمة أخرى تمت صياغة المطالب الفلسطينية التي ستترتب على النكسة وفق صياغات خارجية. أو أن المجتمع الدولي الذي أسس إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني وحطام أحلامه، استخدم الحرب من أجل تقليص تطلعاته.
هل كان الأمر مقصوداً؟ هذا سؤال آخر. لكن ما نتج أن التطلعات الفلسطينية التي كانت تحمل شعارات واسعة قبل ذلك بدأت تجد لها إطاراً محدداً تعبر من خلاله وعبره عن نفسها.
فمثلاً تراجع شعار التحرير الذي هيمن على الخطاب الفلسطيني منذ مجموعات الفدائيين الأوائل في الخمسينيات وحتى ما بعد معركة الكرامة، ليحل مكانه خطاب الدولة الفلسطينية. بدأت هذه الدولة دولة لكل مواطنيها على اعتبار حتمية تحرير كل فلسطين بما في ذلك مستوطنوها اليهود قبل النكبة وانتهت إلى الحديث عن دولة على أي جزء يمكن تحريره منها وفق النقاط العشر. لكن كل ذلك لم يعن أن الخطاب الفلسطيني وجد آذاناً صاغية في المجتمع الدولي إلى حين بدأ الحديث عن أن الممكن هو المتاح، والمتاح هو المناطق التي احتلتها إسرائيل العام 1967. من أجل تحقيق ذلك تمت إعادة تعريف التطلعات الفلسطينية بالطبع دون أن يتم إهمال التطلعات الكبرى التي لا يملك أحد إهمالها. وبذلك تحول وجود إسرائيل على مناطق الـ67 إلى احتلال يجب إزالته.
لكنها لم تكن موجودة قبل ذلك بسنين. هل أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة أعاد اكتشاف أهميتها بالنسبة للحركة الوطنية؟! لا يبدو الأمر كذلك. فالمنطقتان الجغرافيتان كانتا موجودتين قبل ذلك ولم يصار الى تبنيهما كجغرافية معقولة أو محدودة لقيام نواة الدولة الفلسطينية. وربما كان المنطق يقول إن الدولة الفلسطينية التي خسرت قرابة 80% من أراضيها في النكبة كان يمكن لها أن تعلن عن نفسها فيما تبقى من مناطق (الضفة الغربية وقطاع غزة والحمة) وتواصل نضالها من أجل استرداد الباقي. لكن هذا لم يحدث. ما حدث هو الإعلان الصوري عن حكومة عموم فلسطين التي تمت محاربتها من الأنظمة العربية. إعلان صوري لأن هذه الحكومة لم تكن دولة ولم تمارس سيادة ولا سعت لاعتراف. وكان يمكن لها أن تأخذ مقعدا تمثيليا دون أن تضطر لتقديم تنازل في مفهوم الحدود والجغرافيا.
لكن هذا لم يحدث. السؤال الافتراضي الذي لابد من تأمله هو: ماذا لو لم تحتل إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، هل كان الخطاب السياسي الفلسطيني سيركز على التحرير دون مقاربة صياغات الدولة. المحزن أن تلك الأراضي كانت موجودة لقرابة عشرين عاماً لكنها لم تكن وقتها (أو كأن الأمر كذلك) صالحة لأن تكون نواة لدولة فلسطين التي سيتم تحريرها. أعرف أن ثمة الكثير من المصائد في التاريخ، وأن إعادة سرد ما جرى سيحمل الكثير من الألغام، لكن هذا كله لا يعفي الحركة الوطنية الفلسطينية من المساءلة.
في تاريخ التكوينات السياسية ونمو الأنساق الهوياتية فإن الهوية المضادة تساهم في تحديد ملامح الهوية الوطنية، ووجود الصهيونية سارع في دفع الفلسطينيين إلى تحديد ملامح حركتهم الوطنية. فالاحتلال هو النقيض الذي تتشكل لمقارعته الحركات الوطنية. وهذا صحيح. لكن الحال فيما يتعلق باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة ليس كذلك، إذ إن فلسطين كانت محتلة منذ 1948 ولم تتمظهر المطالب بالدولة إلا بعد احتلال ما تبقى من فلسطين. هل كان يمكن أن تكون هناك دولة فلسطينية في تلك المناطق لو لم تحتلها إسرائيل. مرت قرابة عشرين عاماً بعد النكبة ولم توجد مثل تلك الدولة، هل كان يمكن أن توجد بعد ذلك؟ ما الذي جعل من احتلالها من قبل إسرائيل مهداً للدولة. لماذا لم يصار إلى وجود مثل تلك الدولة وبعد ذلك وحين يتم الإقرار بصعوبة تحرير فلسطين يتم التفاوض على أساس قرار التقسيم وهو القرار الوحيد الذي يتحدث عن دولتين ويشير لدولة عربية، وعليه كان يمكن استعادة قرابة نصف فلسطين. لاحظوا أن قرار التقسيم ليس في وارد النقاش حتى. أيضاً سيتم التذكير بأن المجتمع الدولي راكم قرارات تشير إلى مناطق الـ67، وهذا ليس تبريراً، لأنه يعني ما اقترحته المقالة في بدايتها بأن التطلعات الفلسطينية تم تحديدها وفق صياغات المجتمع الدولي الذي بادر بالإقرار بأن أراضي الـ67 محتلة ليؤكد بأن ما تم التهامه العام 1948 ليس محتلاً بل هو الجزء الأصيل من الدولة العبرية. الجزء الذي لم ينتج عن نكبة الشعب الفلسطيني بل إن تهجير شعب فلسطين كان عملاً أخلاقياً لإعادة الأمور إلى جادة الصواب.
أسئلة بحاجة لتعمق أكثر من أجل الوصول إلى فهم أكبر لتطور الخطاب السياسي الفلسطيني. وهي أسئلة جديرة بمحاولة الإجابة ونحن نمر بالذكرى الخمسين للنكسة التي أيضاً علينا الإقرار أن أحد أهم معانيها كان نهاية أي رهان فلسطيني على الأمة العربية بالطريقة التي كانت تسير فيها الأمور قبل ذلك.
[email protected]
أضف تعليق