والدولة العبرية تتجه نحو نهاية عقدها العشرين، يتساءل الكاتب الصحافي الإسرائيلي في ذكرى قيامها: ماذا حدث للكيبوتس؟! قد يبدو السؤال للوهلة الأولى ساذجا أو مجرد تذكير بالتاريخ، لكنه في رأينا سؤال "وجودي" يتعلق بطبيعة الدولة العبرية، وهي الإنجاز الأهم والأخطر بما لا يقاس للحركة الصهيونية، يعيدنا الكاتب الصحافي صاحب السؤال، "يردين ليخترمان" إلى السؤال الموازي: ماذا بعد الحركة الصهيونية بعدما أنجزت هدفها بقيام دولة إسرائيل، ويحيلنا هذا السؤال إلى فرعه، ما هي الدولة العبرية التي كان هدف هذه الحركة الصهيونية إقامتها وإنجازها.
"مجتمع الكيبوتس" هو ذلك العائد إلى الفكر الاشتراكي ـ العلماني إذا صحّ القول، هو "المجتمع" الذي أوكل إليه بناء الصرح الأول للدولة العبرية حتى قبل قيامها رسمياً في الخامس عشر من أيار 1948، هذا المجتمع الزراعي الشبابي هو الذي قامت على يديه، المستويات السياسية والعسكرية في إسرائيل لدى قيامها. رئيس الحكومة الأول ديفيد بن غوريون، كان أحد الذين عاشوا في كيبوتس جنوب فلسطين، وهذا هو حال موشيه دايان، في حين أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الثالث ليفي اشكول، اقام في كيبوتس، حتى يتم تأهيله لمنصبه، يشكل ضباط الجيش الإسرائيلي الكبار في السنوات الأولى للدولة العبرية أربعة أضعاف، مقارنة مع الضباط الآخرين من خارج "مجتمع الكيبوتس".
في ملاحظة يوردها كاتب المقال ـ التساؤل، يربط بين انهيار الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي، وانهيار مجتمع الكيبوتس، في محاولة للربط بين المجتمع الإسرائيلي للكيبوتس والفكر الاشتراكي الماركسي الذي تبنّاه الاتحاد السوفياتي، خاصة وأن هذا المجتمع كان مجتمعاً علمانياً يسارياً بشكل واضح ومحدد، والواقع أنه منذ تلك الفترة التي شهدت تراجع وانهيار مجتمع الكيبوتس، لاحظنا انزياح المجتمع الإسرائيلي، وقياداته السياسية، نحو اليمين، مراحل رئاسة وقيادة حزب العمل ومشتقاته، تهاوت لصالح اليمين الإسرائيلي ممثلاً بالمرحلة الحيروتية ثم الليكودية وكافة مشتقاتهما السياسية والحزبية. انهيار مجتمع الكيبوتس، نقل إسرائيل العلمانية المحكومة "باليسار الإسرائيلي" إلى ما نشهده اليوم من تربع اليمين واليمين الديني على سدة الحكم، والانتقال من مرحلة علمانية بامتياز إلى مرحلة ذات طابع ديني ـ سياسي، يتوازى مع مقولة "الدولة اليهودية الديمقراطية" ومع أن هذا الشعار كان متوفراً في "إعلان الاستقلال" إلاّ أن أحداً لم يتوقف عنده لتنفيذه في ظل مرحلة مجتمع الكيبوتس، لكنه عاد ليتصدر الشعار الإسرائيلي الأساسي في العقدين الأخيرين، وخاصة في السنوات الأخيرة مع تركيز آليات الحكم بيد اليمين المتطرف واليمين الديني، ومع إدراكنا أن هذا الشعار ينطوي على أبعاد سياسية تمتطي الدين، إلاّ أنه يشكل انقلاباً على المفاهيم التي وصفتها الحركة الصهيونية العالمية، لطبيعة الدولة التي هدفت إلى إقامتها!
ويمكن القول في هذا السياق، وكأن إسرائيل انقلبت على صهيونيتها، ذلك أن الحركة الصهيونية انطلقت كحركة علمانية، استثمرت الدين دون أن تؤمن به وحتى هذه اللحظة، لم تتمكن إسرائيل من سن دستور ثابت لها، لأسباب عديدة من بينها وأهمها، عدم اللجوء إلى التوراة والكتب والشرائع الدينية، كمصدر للتشريع والسياسات في الدولة العبرية، الحركة الصهيونية ظاهرة إمبريالية برزت مع حركة الاستعمار وتبلور الوعي القومي في أوروبا، أكثر بكثير من كونها تحقق لليهود دولتهم على أسس توراتية دينية، دون تجاهل دور العامل الديني في اختيار فلسطين وطناً قومياً لليهود من بين خيارات عديدة طرحتها الحركة الصهيونية عند نشأتها، وكعامل آخر للتأثير على مسألة الهجرة اليهودية إلى فلسطين كأرض الميعاد، لذلك يبقى العامل الديني أحد الأدوات من دون أن يشكل صلب وجوهر الحركة الصهيونية.
اليوم، تسعى القيادة اليمينية في إسرائيل لسن القوانين التي تجعل من الدولة العبرية دولة قومية "للشعب اليهودي"، وبذلك فإن هذا السعي يقلب معايير قيام الدول في علم السياسة، فالقوميات تسبق الدول، في الحالة الإسرائيلية، تقوم الدولة، ثم تبحث لنفسها عن قومية مصطنعة، بقلب الهرم على رأسه، من المفترض أن هذا المسعى لن يجد من يصده لا من داخل إسرائيل ولا من خارجها، إذ إن ميزان القوى الداخلية والخارجية هو المقرر في هذه الحالة، وستظل المشكلة الأساسية، تلك المواجهة التاريخية، بين روايتنا كعرب فلسطينيين أصحاب الوطن والأرض والإنسان، وبين رواية مصنوعة حسب طلب اليمين الإسرائيلي!!
[email protected]
أضف تعليق