قام ترامب خلال لقاءه مع نتنياهو بما عجزت عنه قوى عربية وفلسطينية وإقليمية كثيرة على مدار عشرين عاما، وهو اقناع المفاوض الفلسطيني ان الولايات المتحدة ليست ولا يمكن ان تكون وسيطاً للخلاص من الاحتلال، انما هي طرفٌ فيه.
الخلاف الأساسي بين ترامب وسابقه أوباما على هذه القاعدة هو خلاف في شكل السياسة وليس جوهرها. حيث ان الأخير أراد حماية "إسرائيل" من نفسها، ومن هذا المنطلق كانت قراءته للواقع تفيد ان تصريح إسرائيل برغبتها في الوصول لدولتين يحافظ على شرعيتها في وجه كافة القوى الإقليمية والسياسية بغض النظر عن ممارستها للعكس تماماً، وهذا ( اي التصريح بشيء وممارسة العكس) ثابت بالمناسبة منذ اعلنت الحركة الصهيونية محاربة الانتداب البريطاني بينما هي حليفته وثمار سياسته.
ترامب في المقابل وهو الطالب المُستجد غير الواعي بعد لقواعد اللغة والدبلوماسية الأمريكية عبّر بكل صراحة عن جوهر السياسة الأمريكية وهو حماية إسرائيل والوقوف معها دون قيود وشروط لتحقيق أهدافها وخدمة مصالحها .
المهم في هذا التصريح ان ترامب وبضربة واحدة أخرج ادارته ونفسه عن دور الوسيط (لسنوات قادمة!) وحرر نتنياهو من ضغوط إسرائيلية داخلية وأخرى عالمية رمت لإجباره على الاستمرار في مسار التفاوض على قاعدة اوسلو من جهة. ومن جهة أخرى، جَرَّد الصراع العربي-الإسرائيلي من كل المفاهيم التي اسقطت عليه لجعله خلاف على حدود بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأعاده ليكون صراع وجود عربي إسرائيلي. فمخططات نتنياهو تطال مصر (لغزة) والأردن (للضفة) الامر الذي لن يقبله الطرفان!
الترجمة السياسية الفعلية لهذه التصريحات (وهنا لا يهم ان تراجع عنها ترامب ألف مرة) هي إعطاء غطاء سياسي لنتنياهو لتنفيذ ما قام ويقوم به منذ اول انتخاب له في 1996:
فرض واقع على الأرض يهدم أي إمكانية مستقبلية تجعل الفلسطيني صاحب قرار او تأثير في مصيره وحيزه الجغرافي، من خلال تكثيف الاستيطان وتسريع وتيرته واضعاف أي خطر إقليمي وعربي محتمل لمواجهة سياساته التوسعية من خلال دوره في تفكيك المحور الإقليمي الوحيد الذي كان ممكن ان يكون له دور رادع ام هذا الاستفحال (الصهيوني- إيران- سوريا- حزب الله) وعزل المقاومة في غزة للاستفراد بها وابعادها عن دائرة التأثير الجدي.
هذه التصريحات الامريكية إذاً والمباركة الإسرائيلية لها إذاً، هي ليست أكثر من قراءة وتقييم موضوعي للواقع كما هو. فالسيطرة الفعلية لإسرائيل على فلسطين الانتدابية هي حقيقة، والممارسات المتباينة المطبقة على الفلسطينيين داخل مناطق مصطنعة من قبلها ما هي الا مراعاة للضرورة الموضوعية .
اذاً نحن امام واقع عملت وتعمل فيه حركة عنصرية استعمارية على تحقيق ذاتها من خلال المزيد من التوسع وإحكام السيطرة على الموارد الطبيعية والبشرية، وترى ان الظرف التاريخي مواتٍ لقطف ثمار عملها. في مقابل حركة تحرر وطني تنازلت بمحض ارادتها عن دورها في قيادة شعبها نحو الحرية وتقرير المصير لتكتفي في الوقوف على ناصية الحلم والتفاوض!
ان مجرد الحلم والذي حُرم منه المفاوض الفلسطيني هو اقصى ما كان يمكن ان يُنجَز لأن حركة الاستعمار ان توقفت صدأت وماتت. وفي هذا المفهوم هي لم تتوقف يوماً عن لعب الدور المنوط بها. وما بطاقات الVIP- والقوى الأمنية والاعلام ومراسيم الدولة في هذا السياق، الا اصبعاً في العين يعمي عن رؤية الفيل من خلفه!
والفيل هنا هو "حركة تحرر وطني" قبلت ان تكون إدارة مدنية لشعبها نيابة عن الاستعمار الذي لم يتوقف يوماً عن دوره الغازي والمهيمن ان كان بالوجود المادي (الاستيطان) او الاقتصادي من خلال تحويل السوق الفلسطيني لأكبر سوق مستهلك للبضائع الإسرائيلية، وحتى بالهيمنة الثقافية والسياسية من خلال تحديد ما الذي يعتبر تحريضاً ولا يمكن السكوت عنه، وما الذي يعتبر اعتراضاً مقبولاً يمكن التعايش معه ! كل هذا تم من خلال التمسك باتفاق وُلد ميتاً واعتباره ناظماً للعلاقة مع الاحتلال. فإعلان مبادئ غيّب اغلب نقاط الخلاف الجوهرية بين طرفيه (القدس، اللاجئين، تقرير المصير) لا يمكن ان يؤدي لشيء وكان هذا جلياً مثلاً عندما فاوض الفلسطيني لعامين مُنح في نهايتها السيطرة على نصف اريحا مدنياً فقط رغم انها كانت من الامور البديهية المتفق عليها!!
إذاً صدق الإسرائيلي عندما قال اننا نقف اليوم أمام مرحلة جديدة وواقع جديد لم يجد قرائته السياسي الفلسطيني او بالاحرى لم يرغب بقرائتِهِ لأنه صفعة لحلمهم الارادوي.
ونحن اذاً امام واقع صاغت فيه منظومة استعمارية رؤيتها للمستقبل من خلال إعادة تشكيلها للحاضر باستمرار، ومن خلال آليات أقصت الفلسطيني عن سياقه المكاني والتاريخي والثقافي بما يتلائم مع رؤيتها للمستقبل. وهكذا بتنا جميعاً على هامش الاحداث وفي خانة رد الفعل الموضعية، نتأثر بالاحداث ولا نؤثر عليها خلال أكثر من عقدين مضوا.
نظرة للأمام:
ان تصريحات ترامب هذه ممكن ان تكون هدية سماوية نتلقفها كفلسطينيين وحبل انقاذ للمشروع الوطني الفلسطيني برمته! كيف؟!
رمى ترامب صخرة عملاقة في المياه الراكدة بل وأعطى الامكانية لخلق واقع جديد. وبطبيعة الحال واقع جديد يعني خيارات جديدة وامكانيات جديدة كانت مُتَجاهلة تماماً. وهكذا ومن العدم من كان يقول ان الواقع لا يسمح بالنضال من اجل التحرر وتقرير المصير الان اصبحت لديه- ان أراد- الامكانية وباعتراف إسرائيلي! فنتنياهو نفسه يقول انه لا مكان لكيانين سياسيين في ذات المساحة. والحقيقة ان حقنا كفلسطينيين ( كل الفلسطينيين) في تقرير مصيرنا في وطننا غير المجتزء والنضال من اجله هي اهم من التفاعل مع منطق الدولة الواحدة كما صاغها اليمين الصهيوني وباركها ترامب بالصمت.
ما الذي يمكن عمله إذا:
نحن هنا امام فرصة تاريخية لإنهاء حالة التشرذم الفلسطيني، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية لتمارس دورها وواجبها التاريخي في التحرير. من خلال تفعيل جميع الإمكانيات المتاحة لديها والتي قد تكون أوسع في ظل هذا الواقع السياسي المستحدث.
فعلى قاعدة توحيد الفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم، من الممكن البدء في فعل سياسي ونضالي جامع يستغل كافة هذه الطاقات والقطاعات ومن ضمنهم وفي مقدمتهم تفعيل دور للفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948 والتي جرى تهميشهم لعقود.
ليحصل هذا هناك 3 خطوات أولية ممكن البدء بها؟
*العمل على توحيد الفلسطينيين في الشتات والداخل والضفة وغزة، من خلال مشروع وطني فلسطيني جامع على الصعيد الداخلي
*التموضع مجدداً في المكان الملائم لحركة تحرر وطني، وهو بجانب القوى المقاومة للهيمنة الامريكية في العالم ولإسرائيل في المنطقة والمعروفة للجميع
*تفعيل جميع القطاعات الفلسطينية وعمقها العربي والدولي وفتح جميع الخيارات النضالية التي يبيحها الواقع الموضوعي والمساحة المستجدة دون الغاء أي نوع مقاومة من الحسبان
ان هذه النقاط الثلاث والعمل على تحقيقها تعني ادراكنا للظرف التاريخي الذي نعيش، وتعني تحولنا للمبادرة في العمل السياسي وعدم التلقي فقط. وتضعنا امام فرصة تاريخية للملمة الصفوف والعودة الى المربع الأول... مربع التحرر من الاحتلال.
مشروع وطني فلسطيني جامع هو مطلب المرحلة وبغض النظر عن تصريحات ترامب التي قد يتراجع عنها غدا .... يبقى السؤال، هل نحن لهذه اللحظة لمدركون ؟!
أحمد خليفة
الكاتب محامي وناشط سياسي عضو في اللجنة المركزية لحركة ابناء البلد
[email protected]
أضف تعليق