بعد خمسة شهور يكون قد مضى خمسون سنة على الاحتلال. خمسون سنة تغيرت خلالها دولة اسرائيل من الأقصى إلى الأقصى؛ تغيّرت من دولة الرفاه وفق رؤيتها التأسيسيّة بأن تكون البيت القوميّ للشعب اليهوديّ ودولة المساواة لجميع مواطنيها في الوقت نفسه، إلى دولة الفجوات الأكبر في الغرب، التي تمارس التمييز ضد مواطنيها العرب، وغير قادرة على الارتباط مع يهود العالم. من دولة كانت "تسعى إلى السلام" إلى دولة منشغلة في "ادارة الصراع" من خلال الحروب والحملات العسكريّة المتكررة، نَقتُل فيها ونُقتَل لأننا اقتنعنا أنه "لا يوجد شريك" للسلام، لذلك بتنا نعمل وفق رؤيا رئيس حكومتنا الذي أوضح لنا في السنة الأخيرة أنّه "للأبد سنعيش على الحراب". حكومتنا منشغلة في تشريع قوانين "التسوية" والضم التي تهدف إلى شرعنة النهب، حكومة يقودها اليمين المتطرف الذي يسعى إلى ضم المناطق المحتلة، وترسيخ دولة عدم المساواة بين اليهود والعرب. هنا في دولتنا ثمة معسكر واحد مع رؤيا واضحة، نجح في السيطرة على جميع مراكز القوة في الدولة، وتوجيهها بطريقه هو هو. لكن رؤياه غير مرغوب بها وغير مقبولة على أغلبية مواطني إسرائيل الذين يدركون الثمن الدموي لهذه الرؤيا، وثمنها الأخلاقيّ والاقتصاديّ، لكنهم يصوتون للقوى السياسيّة التي توجه هذا المسار، لأنها الرؤيا الوحيدة والواضحة التي تتراسل، ظاهريّا، مع الواقع. مقابل هذه الرؤيا المرعبة هناك الترهل المطلق "لليسار". فليس لديه لا رؤيا، ولا برنامجًا، ولا القدرة على التواصل مع الجماهير، وهو غير قادر على الانخراط في مراكز التأثير. وبدل طرح البديل، يحاول حزبا "يش عتيد" و"المعسكر الصهيونيّ" أن يكونا "ليكود لايت". والعمل من داخل مخطط اليمين، ومواصلة الاحتلال، والمضي مع الاقتصاد المتوحش والمسيء وغير المتساوي، لكن بفظاظة أقل، ومحاولة عدم إغاظة العالم. ولا شيء ينتج عن هذا اليسار "الوسط". وليس حتى أي تنظيم سياسيّ هام. فهم يتحدثون كثيرًا، ويقولون الأمور الصحيحة، ولكنهم لا يأثرون على شيء. "الكلاب تنبح والقافلة تسير"، هذه هي المكانة الحالية لليسار في إسرائيل.
لدى الحديث عن إعادة بناء اليسار لا يمكننا التطرق إلى أية جهة حزبية خارج الحيز الضيّق بين "ميرتس" و"الجبهة الديمقراطية للسلام". في الوضع الحاليّ فإن "الجبهة" محاصرة داخل قائمة عربية فلسطينيّة مشتركة التي لم تنجح حتى في التوقيع على اتفاق فائض أصوات مع "ميرتس". أما حزب "ميرتس"، الذي اجتاز نسبة الحسم بصعوبة في الانتخابات الأخيرة، فلم يفعل شيئّا من أجل بناء "اليسار الجديد" ليشكل بديلًا حقيقيّا للوسط واليمين اللذان يقودان معًا استمرار الاحتلال، واستمرار السياسة الاقتصادية التي تضر بغالبية مواطني الدولة، وإلى خراب الدولة كدولة ديمقراطيّة. حزبا "ميرتس" و"الجبهة" لا يشكلان قاعدة لليسار الجديد، فهما غارقان في أطر سياسيّة لا تعزز التغيير السياسيّ في إسرائيل. فمن لا يستطيع العمل من أجل الإنهاء الفوريّ للاحتلال بعد خمسين سنة، ومن لا يستطيع قيادة سياسة اقتصاديّة اشتراكيّة، ومن لا يستطيع تشكيل شراكة سياسيّة متساوية بين اليهود والعرب، فهو يسار غير ذي صلة. الطريقة الوحيدة لإقامه يسار بديل ذا صلة، هي التحالف بين قوة اليسار اليهودي الإسرائيليّ واليسار العربيّ الفلسطينيّ، الأمر الذي يتطلب تغيّر الطرفين. ينبغي على الطرفين الاعتراف بأنه فقط من خلال التحالف بينهما يمكن تحقيق قيم اليسار وإحقاق أهدافه.
القيمة المُأسسة لليسار هي المساواة. لذلك، ينبغي بناء البرنامج السياسيّ الجديد من هذه القيمة وعليها: المساواة بين الأغلبية والأقلية القومية في اسرائيل هي قاعدة التغيير. بدونها لا توجد ديمقراطية. الشراكة لا تلغي السرديات المختلفة لكل طرف، لكن يجب أن تترفع الأطراف عنها. يجب أن تتيح ارتباط المواطنين العرب مع مواقع القوة التي تصوغ الواقع في الدولة، القوة التي كانت وما زالت حصرًا على الأكثريّة اليهوديّة الصهيونيّة. المشكلة الأكثر تعقيدًا بالنسبة "للقائمة المشتركة" تكمن في عدم قدرتها على تحقيق إنجازات ملموسة والتواصل مع مراكز التأثير وصنع القرار. وهي الوضعيّة التي لم تعد الأغلبية الساحقة لمواطني إسرائيل العرب تستطيع التماثل معها. المواطنون العرب الفلسطينيون في اسرائيل يطالبون بالعدالة، والاندماج والمساواة المدنية التامة. من يناضل من أجل هذا يحصل على أصواتهم وثقتهم. اليوم لا يوجد أي حزب يلبي هذه الحاجة لخمس مواطني الدولة. وهم قوة انتخابية هائلة لتغيير الدولة. فشل حزب "ميرتس" الأكبر (رغم مواقفه التي تُعبر فعلًا عن اليسار الحقيقيّ) هو كونه بيتًا لليسار الصهيونيّ فقط، و"للسبط الأبيض" خاصة. لا يستطيع حزب "ميرتس" اختراق منطقة الضواحي الجغرافية والبشرية لإسرائيل، ولا يوفر بشائر جديدة، ولا يعتبر شريكا متساويًا لجميع الفئات والقطاعات المستثنية عن مراكز التأثير على بلورة نهج الدولة.
حزب "ميرتس" الذي يحتاج جدًا إلى التجدد والتحالفات الجديدة، لا يستطيع اليوم استقطاب مجموعات الضواحي الى مركز التأثير، ولا سكان الجنوب أو الشمال، لا البلدات ولا الكيبوتسات، ولا العرب بالتأكيد. من يقصي خمس مواطني الدولة من حساباته السياسيّة لا يكون أبدًا يسارًا حقيقيّا وذا صلة. فهو يهدر جهوده السياسيّة على الصراعات الداخلية التي تؤدي إلى خرابه، وليس على صوغ رؤيا جديدة وبرنامجًا سياسيّا واسعًا يعزز رسالته ويحوله إلى قوة سياسيّة قادرة على بلورة الواقع.
دولة اسرائيل التي أقيمت على الربط الصادق بين الاستجابة إلى حاجة الشعب اليهوديّ إلى بيت قوميّ، والديمقراطيّة التي تستند إلى المساواة المدنيّة التامة لجميع مواطنيها (كما جاء في وثيقة الاستقلال)، تحتاج إلى التلاحم السياسيّ بين اليهود والعرب ضمن قائمة مشتركة تتشكل على نحو متساوٍ وتنجح في التعبير عن المكمون السياسي الانتخابيّ لمواطني إسرائيل العرب ضمن ائتلاف حكوميّ. بدون مثل هذا اليسار، لن ننجح في إقامة ائتلاف يشكل بديلًا للتحالف بين اليمين والمستوطنين اللذين يقودان اليوم إلى دولة ليست ديمقراطيّة، دولة ينبذها العالم كله ومنعزلة عن غالبية الشعب اليهوديّ في الشتات.
حان الوقت للشراكة اليهوديّة العربيّة السياسيّة، الشراكة التي تسعى إلى تعزيز المساواة في إسرائيل: المساواة الاقتصاديّة والمساواة القوميّة. مساواة تشكل بيتًا لكل المتضررين من رؤيا اليمين الاستيطانيّ. بيتًا للمواطنين اليهود والمواطنين العرب الذين يعملون جاهدين ويكسبون القليل، الذي يشاهدون الدولة تستثمر أموال الضرائب التي تجمعها منهم في المناطق وراء الخط الأخضر، واستمرار السيطرة عليها، ولا تستثمر بالمواطنين والبلدات المنتشرة على طول وعرض دولة إسرائيل داخل حدودها المعترف بها والمقبولة عالميّا. إسرائيل في حاجة إلى شراكة سياسيّة جديدة لكسر النماذج القديمة التي تفصل بيننا. شراكة بين اليهود والعرب، والمتدينين والعلمانيين، القدامى والجدد. شراكة بين الطوائف المختلفة المعقدة والمثيرة والتي تشكل هذه الدولة، لكن قوة (الموارد) لا تتوزع بالتساوي بينها.
[email protected]
أضف تعليق