من أهم الجمل النقدية في الأدب العربي القديم قول الجاحظ في كتاب الحيوان: "المعاني مطروحة في الطريق يَعرفها العجميّ والعربيّ والبدويّ والقرويّ والمدنيّ". إن ما يتوخاه هذا الناقد الألمعي بهذا القول، على ما فيه من آراء، أن الأحداث الإنسانية واحدة عند بني البشر: الفرح، والحزن والغضب والازدراء والسرقة والخداع والبيع والاقتناء وغير ذلك. هذه أحداث مألوفة عند الناس، وحسبك أن تقرأ الأخبار الصحفية حتى تعلم أن الأحداث مكرّرة وليس فيها من جديد. ولما كان الأمر كذلك، تميز العمل الأدبي، لا سيما الرواية، في أنه يولي الشخصيات الأهمية الكبرى، إذ إن الراوي البارع هو الذي يستطيع أن يصور باطن الشخصيات من أجل فهم سلوكها. وهذا ما آنسته في رواية "القيامة" للأديب الأغرّ تولستوي، الرواية التي قرأتها حديثًا بعناية وشغف، فبلغت مني غاية الإعجاب حتى إنني أهيب بكل إنسان أن يقرأ هذا العمل العبقري لما فيه من عمق وتوغل في المشاعر الإنسانية.
تتحدث الرواية عن فتاة بريئة كانت فريسة لشهوة رجل من النبلاء قضى حاجته منها وتركها، فتحولت الفتاة على إثر ذلك إلى زانية تتعيّش بجسدها. تلتقي الشخصيتان بعد سنوات، فيدرك نوخلودوف بطل الرواية عمله الفادح، ويبدأ في محاسبة نفسه ويقرر التخلي عن حياة المجون والترف، فيستطيع بعد مجاهدة روحانية أن يتبرّر ويَخلُص من دنس الرذيلة إلى طهارة الفضيلة.
لقد أظهر تولستوي في هذه الرواية، وهو المعروف بإيمانه الشديد، أهم الأفكار الإنجيلية عن خلاص الإنسان الخاطئ وقيامته من الموت الروحاني إلى الحياة، ومن الأمثلة الكثيرة التي تسنح في هذا السياق مثل الابن الضال الذي قيل فيه إنه "كان ميتًا فعاش وضالًّا فوُجد". تتجلّى براعة الراوي في مقدرته على وصف مشاعر البطل والأوجاع التي يقاسيها حين يقف على حقيقته، ولكنه لا يخلص من خطاياه ولا يكفر عن ذنوبه إلا بمجاهدة النفس، أي أن ينتصر لذاته الروحانية على ذاته الحيوانية، وهو أمر مقرون بالمشقة والعناء، لأن لذة الشهوات الجسدية مُسلَّطة على الإنسان. هذه فكرة "حمل الصليب" بمعناها المجازي التي عبر عنها السيد المسيح بقوله: "إن أراد أحدٌ أن يأتي ورائي فلينكرْ نفسه ويحملْ صليبه كل يوم ويَتبَعْني".
لقد آثرت أن أطلع على هذه الرواية بترجمتها العبرية (ترجمة: دينا مركون، 2012) لأن الترجمة العربية التي صدرت عن دار الأندلس (بيروت، 1984، ترجمة: علي جابر)، مع الأسف الشديد بل الحرّاق، لم ترع الأمانة العلمية وأضرت بالنص وأبعاده الفكرية إضرارًا كبيرًا فظلمت المؤلف والقارئ العربي ظلمًا شديدًا. بالإضافة إلى أن المترجم قد تغافل عن الآيات الإنجيلية التي تظهر في مفتتح الرواية (كما تغافل في ختامها)، فإنه قد أطلق عليها عنوان "البعث"، وهو مصطلح ديني يختلف اختلافًا أساسيًّا هو ومصطلح "القيامة" الذي قصده تولستوي. هذا إلى أن الترجمة العربية قد تجاوزت في كثير من المواضع جملًا تمثل فكرة قيامة البطل، وحرّفت كثيرًا من المشاهد الجوهرية فقدّمت صورة تخالف ما تحرّاه المؤلف الذي عُرف بدقة التصوير السردي.
سأقدم في هذا المقال مثالًا واحدًا طلبًا للإيجاز. في الفصل الثامن والعشرين (القسم الأول) يصف المؤلف التحول الداخلي الذي حصل للبطل حين انفتحت عيناه وصار قادرًا على التمييز بين الخير والشر، فأخذ يقرّع نفسه على علاقاته الزائفة وحياته الفاسدة الفارغة من كل غاية، وترك المبالاة بعواقب أفعاله، والثروة التي تُجمَع بالكذب والخداع، ثم اعتزم أن يُقوّم حياته المعوجّة ويطلب الصفح من تلك الفتاة البريئة. وفي لحظة تأمل ذاتي عميق، جاء في النص الذي أترجمه بالعربية عن العبرية (بمقابلة النص الروسي) ما يلي: "وقف، شَبَكَ يديه أمام صدره كما كان يفعل صغيرًا، رفع عينيه إلى الأعلى وقال متوجّهًا إلى أحد: "إلهي، ساعدْني، علّمْني، تعال اسكنْ في داخلي وطهّرْني من كل دنس!". صلّى وطلب من الله أن يساعده ويسكن في داخله ويطهّره، ولكن طلباته وهو على هذه الحال قد تحققتْ. الله الذي يحيا في داخله استفاق في وعيه. شعر بأنه هو، ولذلك لم يشعر بالحرية والنشاط وفرح الحياة فقط، بل شعر بكامل قوة الخير. شعر الآن بأنه قادر على فعل كل شيء، [على فعل] خير ما يمكن للإنسان أن يفعله".
أما الترجمة العربية فإنها لم تموّه مشاعر الشخصية فقط، ولكنها مع التمويه امتنعت عن إضافة بعض الأفعال إلى الله (وذلك لأسباب دينية على الأرجح): "فضم ذراعيه إلى صدره كما كان يفعل أيام الطفولة وشخص ببصره إلى السماء ضارعًا: يا إلهي أعني. أرشدني. اعمل على أن أعود لسابق صلاحي وطهارتي". كان يتوسل إلى الله كي يمنحه القوة المعنوية ويطهره. وها قد تقبل الله توسلاته. إنّه الآن لا يحس في نفسه مجرد حرية الحياة وقوتها ومرحها فحسب، وإنما سائر قوى الخير مجتمعة" (ص 114). إنني على ثقة بأن فطنة القارئ ستكفيني تحليل هذه الترجمة المخلة التي ظهرت في مواضع كثيرة أخرى.
إنّ الترجمة العربية لرواية "القيامة" (البعث) لا تصور أعماق الشخصيات ولا تثمل أبعاد الفن السردي. إنها تنقل بالمجمل أحداث الرواية كما تنقل الصحف اليومية أحداثًا مختلفة في الأخبار، وما الانتفاع بذلك؟! وكم أراه خُسرانًا كبيرًا أن يقرأ الإنسان العربي هذا العمل فلا يتأتى له الوقوف بعمق على معانيه.
صحيح أننا نشهد في العصر الحديث ترجمات عربية كثيرة، ولكنها بالمجمل بعد القراءة والتمحيص تشتمل على تقصير كبير قد يراه بعض الناس أمرًا طبيعيًّا، إذ إن العادة توأم الطبيعة. ورواية "القيامة" هي حالة واحدة من حالات كثيرة، يفتح فيها العالم العربي أبوابه ليحتضن أعمال الأمم، ولكنه يُبدّل جوهرها ويفرض عليها لغة تلائم ذوق المتلقي، فيظل سجين لغته الواحدة، وتفكيره الواحد، وأيديولجيته الواحدة، وتبقى حياته على رواية واحدة من الأحداث، فلا تقوم له قيامة. ألم يجئ في الحديث النبوي "المرءُ كثيرٌ بأخيه"؟! لا أريد أن أفهم هذا الحديث على غير ما قاله الشاعر: إذا كان أصلي من ترابٍ فكلُّها / بلادي وكلُّ العالمينَ أقاربي. وما أحوجنا في هذه الليالي الحوالك الدوامس إلى الإنسان الذي يُحطّم كل سجن في قلبه، ويهدّم كل زنزانة في نفسه، ويقوّض كل جدار يحفّ بعقله، فيرى العالم بقلب نيّر، ويكون كالديمة الهطلاء عطاءً وكالنهر الدّفّاق محبةً.
[email protected]
أضف تعليق