لقد طرحت مؤسسات التنظيم والبناء في العقد الأخير مجموعة واسعة من الخرائط الهيكلية والتفصيلية في البلدات العربية. سُيّرت هذه المخططات بعد سنين طويلة من التقصير ومن تقاعس المؤسسات المختصة في توفير المخططات اللازمة لتطوير البلدات العربية، ولكن ليس هذا فحسب، بل الأهم من ذلك أن هذه المخططات تلزم أصحاب الأراضي العرب استغلال أراضيهم بطرق لا تزال غير مألوفة في المجتمع العربي مما خلق صدامًا بين التخطيط والمواطنين العرب.
ومن الأمثلة الكثيرة على هذه الحالة أورد قضية المخططات الهيكلية التي اقترحت أن تشتمل البلدات العربية على البناء المتعدد الطوابق (בניה רוויה). وحسب هذه المخططات تحوّل الأراضي الزراعية في البلدة العربية للسكن والتطوير شرط أن تستغل قسيمة البناء الواحدة لبناء ما لا يقل عن 4 وحدات سكنية وفي حالات أخرى 6-8 وحدات سكنية، مع أن نمط البناء المعهود في أكثر البلدات العربية هو بناء منزل لعائلة واحدة على القسيمة (חד משפחתי) وليس مبنى متعدد الطوابق أو عمارة سكنية. بل إن وزارة الداخلية انتهجت منذ عدة سنوات سياسة تخطيطية صارمة مفادها ألا يكون توسيع نفوذ أي بلدة عربية إلا بعد استنفاد المناطق السكنية في داخل البلدة بواسطة البناء المتعدد الطوابق، وهي تعتبر أن هذه الطريقة في البناء طريقة حديثة وعصرية تهدف إلى استغلال الأرض إلى اقصى الدرجات وهو أمر إيجابي حسب مفهومها نظرًا الى مساحة دولة إسرائيل الصغيرة.
ويدعي أصحاب الأراضي العرب وممثلو السلطات المحلية العربية أنه من الصعب استيعاب وتطبيق طريقة البناء المذكورة لأنها نمط تخطيطي جديد بالنسبة إلى البلدات العربية ويخالف نهج الحياة (Way of Life) السائد فيها. وفي الحقيقة، بسبب هذا الاختلاف في مفاهيم التخطيط للمواطنين من جهة ومؤسسات التخطيط من جهة أخرى، فإن طريق التصديق على المخططات الهيكلية المذكورة لتكثيف البناء في البلدات العربية مشوب بالعديد من العراقيل والعثرات، حتى إن مجموعة من الخرائط الهيكلية من هذا النمط لم تتحقق على أرض الواقع بل بقيت حبرًا على ورق.
وهنا يبدأ الجدل النظري إن كان باستطاعة التخطيط أن يتجاهل ثقافة المجتمع أو المجموعة التي يهدف التخطيط إلى خدمتها، وبالعكس، هل يحق لمجتمع معين أن يجهض تخطيطًا ما بحجة الحفاظ على ثقافته أو طريقة حياته التي لا يتم استغلال الأرض بسببها بشكل ناجع كما يسعى التخطيط؟
ولمحاولة الإجابة عن هذا السؤال أشير بإيجاز أن عالم التخطيط انتقل مما يسمى التخطيط العصري (Modern Planning) الى عهد ما بعد التخطيط العصري (Post-Modern Planning). في الوقت الذي يعتمد فيه التخطيط العصري على إعطاء المخططين الأفضلية على المجتمع لأن التخطيط علمٌ والمخططين هم أصحاب الخبرة في هذا العلم ولذلك لا حاجة للمخططين أن يرجعوا إلى المجتمع أو يشركوه بشكل كامل في عملية التخطيط، فإن فترة ما بعد التخطيط العصري تؤكد حسب تجارب مختلفة في العالم أن التخطيط لا يستطيع أن يحل مشكلات المجتمع بشكل حقيقي اذا لم يراع ثقافة المجتمع وطريقة حياته، وعليه على التخطيط أن يتصل بثقافة المجتمع، بل أن يدمج في داخله ثقافة المجتمع والمكان الذي يعمل فيه وأن يلتحم معها وأن يعكسها في المخططات الهيكلية التي تنتج في نهاية العملية التخطيطية. وقد خلق هذا الفكر الجديد آليات جديدة تعمل على صهر ثقافة المجتمع في التخطيط (Culturization of Planning) وآليات أخرى تمنح المواطن حقه في خلق المكان الذي يعيش فيه مجدّدًا مثل إعادة تخطيط وترميم الأحياء والأماكن العامة (Place-Making).
ومع أن آليات التخطيط الحديثة المذكورة مزدهرة في عديد من دول العالم، فإن التخطيط في المجتمع العربي في البلاد لا يزال يندرج في إطار التخطيط "القديم" الذي يعطي المخططين فوقية على أصحاب الأراضي كأنهم أخبر منهم ومن أبناء المجتمع ولا يعطي ثقافة المجتمع العربي وطريقة حياته قيمة حقيقية ولا يعتبرها عاملا مؤثرًا في التخطيط. هكذا يتحول التخطيط في البلدات العربية من تجربة شراكة بين المواطن والمخططين وتجربة مدنية مهمة يشعر بها المواطن بهويته وقيمته وقدرته على صقل المكان الذي يعيش فيه، إلى عملية فرض وكسر يكون فيها التخطيط غالبًا والمواطن مغلوبًا ومقهورًا. وشعور القهر هذا لدى المواطن تجاه التخطيط هو ما يكبّر الفجوة بين المواطن وجهاز التخطيط ويضعف إلى حد كبير شعوره بالمواطنة، وكم بالحري حين يكون الحديث عن المواطنين العرب في البلاد الذين يحملون أصلا ومنذ زمن مشاعر التشكيك والتخوف من جهاز التخطيط وذلك على إثر مشاريع مصادرات الأراضي والمشاريع العمرانية التي اقتطعت مساحات شاسعة من البلدات العربية ومست بإمكانيات تطورها، وهذا كله ولّد لدى أغلب المواطنين العرب الشعور بأن جهاز التخطيط في إسرائيل ليس إلا أداة لتنفيذ مصالح الدولة كالحد من تطور البلدات العربية والسيطرة عليها جغرافيًّا وديموغرافيًّا حسب اعتقادهم.
إذًا، أرى أنه على المخططين والقيّمين على جهاز التخطيط في البلاد أن يحدثوا لديهم تحولا فكريًّا في التخطيط وعلاقته بالمجتمع. ليس التخطيط عملية قهرية أو معركة تنتهي بمنتصر ومهزوم. هذا يعني أنه من الخطإ الفادح تفضيل المخططين على المواطنين وتخويلهم أن يقرروا مصلحة المواطنين وما هو أفضل لهم دون الرجوع للمواطنين وتفهُّم ثقافتهم وطريقة حياتهم. إن التخطيط شراكة بين المواطن والدولة وعليه من العدل أن يكون للمواطن العربي دور حقيقي في التخطيط وأن يستوعب التخطيط ثقافته وطريقة حياته وأن يجد المواطن والمخططون معًا التخطيط الأفضل لأرضه ولحيه ولبلدته ولمجتمعه.
* محام مختص في قضايا الأرض والتخطيط وباحث للقب الدكتوراة في القانون.
[email protected]
أضف تعليق