السبت 23 تموز تمام التاسعة مساء توقيت فلسطين. طعمُ رذاذِ موجِ بحرِعكّا يستقبلك على ذلك الشطِّ الغربي قبل دخولك الى نادي "جام" للإبداع التعاوني المحاذي للسور الغربي. بضعُ خطواتٍ على الشارع المغطى بالحجر الرمليّ تفصلكَ عن درجٌ صغير يؤدي إلى قبوٍ جميل صُبِغَت جدرانه بالأسود وغُطي بعضَها ببوسترات عروضٍ موسيقية سابقة، عتمة تشُقها أحزمة ضوءٍ برتقالي ودخان ٌ أبيضٌ في الجو يُشعرانك بأنك سرعان ما ستصطدم بمايلز ديفيس، لوي أرمسترونغ أو إريثا فرانكلين، وجوه عكّية عاشقةٌ للموسيقى ولأمل، وجوهٌ من حيفا، جديدة وشَعَب وإقرث وكفرياسيف وأبوسنان والناصرة وعرابة والرامة وقرى جليلية أخرى تتبادل السلام والنبيذ أو القهوة وتنتظر حلول الساعة العاشرة مساء- وقت صعود أمل وثلاثي ال "جاز" الذي يرافقها هذه المرّة الى خشبةٍ ترتفع بضع سنتمترات عن أرضيةِ القبو الخشبيةِ.
على المسرحِ البسيطِ ثلاثُ آلاتٍ: تشيلو كونتراباص، ايقاع وقانون. يطلُ حجاي بيليتسكي و نايف سرحان وفراس زريق فأمل ويرتفع التصفيق. يهدُرُ البحرُ، يعلو موجُ عكّا ثم يهدأ الجو. "مساءُ الخير" ثم ابتسامةٌ ونظرة حبّ للجمهور الذي انتظرَ ساعةً ثم- كما يهزُ حجرٌ سطحَ بحيرةِ أليف شافاق- يشقُ صوتُ الكونتراباص وأمل سكينةَ الانتظار يتبعُهما القانون والايقاع الخافت وترتفعُ حزمةُ الضوء البرتقالي وتقعُ على الوجوه وتبدأ حولي همهمةُ للحن المألوف فأبتسمُ بعتمة المكان. مرافقةُ الجمهور الخجولة للمغنية تزيدُ الموسيقى عُمقاً خاصّاً، تجعلَها تتكوّر أو تتكعّب أو تأخذ حيزا أكبرَ بالمكان.
"كبر القلب" وثم "صوت المرأة "، من شغاف القلبِ والطفولةِ ورؤية العالم من فوق جناحي قلب الى الثورة في صوتِ المرأةِ المنطلقِ بحريةٍ دونَ كبتٍ، كانتا أول دائرتين توسعتا صوتاً ولحنا على سطح بحيرة السَكِينةِ التي خلقَها الانتظار. تصفيقٌ واستحسانٌ ثم "عَ الأوف مشعل" وقصة الفراري الذي هرب من خدمة العثماني الجائر وباقي أغنيات عرفناها منها الجديد من ألبوم "فتح الورد" ومنها من الألبومات السابقة.
وتفاجىء أمل جمهورَها بِ "وحدُنْ" الفيروزية ، بخلفية موسيقية غنيّة من القانون،الكونتراباص والإيقاع الخافت ممزوجين بصدى اللحنِ الخارجِ من غناءٍ هادىءٍ لعشّاق الأغنية بين الجمهور. لحظات وتبدأ أمل بهمهمة "أنا من ضيّع بالأوهام عُمره " لعبد الوهاب ويرافقها الثلاثي بنسخة "جاز" للحن كلٌ منفرداً بمقطوعة ارتجالية منه. ترتفع الجملةُ وتنخفض، وترتفع وتيرة الايقاع وتنخفض وترتفع أيدي بيليتسكي وتنخفض على أوتار الكونتراباص يرافقهما فراس بترقيص أصابعه على أوتار قانونه- وكأنهم معاً يحاكونَ حركةَ الموج الذي كان ليلتها يلاطم جدار القبو من الغربِ. ومن عبد الوهاب الى اختتام الأمسية بثلاثية جميلة بدأت ب "للحياة أُغني" و، "ثوروا كتشي جيفارا" و "مغنواتي".
تصفيق حار ووقوف للجمهور وصور تذكارية مع أمل والفرقة ومرور ثمانون دقيقة أذنت بإنتهاء تلك الأمسية الحميمية. بضعُ خطواتٍ بطيئة الى خارج نادي الجاز تأخذك رجوعاً الى الغربي والى هواء عكا المالح لتتلقفك لوحةٌ الشارع من جديد: تجدّدَت شخصياتها وألوانها لتشمل عكيين يتسامرون تحت قمر الصيف يحتسون القهوةَ أو النبيذ فتنذوب بينهم أنت وكل من كان معك بذلك القبو وتذهب مدندناً أيَ لحن عَلِقَ بعنادٍ وإلحاحٍ بعقلك وقلبك وأُذنيكَ فتمشي، أو تقفزُ، طرِباً جذِلاً الى محطتك التالية بتلك الليلة الصيفية المقمرة.
[email protected]
أضف تعليق