أنهت قمة «الناتو» أعمالها، أمس، في العاصمة البولندية «وارسو» وهي بذلك ترسي علاقات من نوع جديد على صعيد «التهديدات الدولية» خاصة في إطار علاقة الحلف مع روسيا الاتحادية، ولعلّ هذه القمة هي الأهم من بين كافة القمم التي عقدها الحلف إثر انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال حلف «وارسو» عن الخريطة السياسية والدفاعية، باعتبار أن الحلف ما زال قائماً، رغم عدم وجود «عدو» ذي طابع وجودي ويشكل تحدياً جوهرياً لبقاء المعسكر الرأسمالي، ولعلّ أهم مستخرجات هذه القمة هو تحديد هوية «العدو» الذي يشكل الحلف خطاً دفاعياً إزاءه، قبل وأثناء انعقاد قمة الحلف في «وارسو» تبين أن هناك خلافا واضحا حول هوية العدو هذا، حتى أن مصطلح «عدو» غادر سياق التصريحات والأحاديث الصحافية أو النقاشات داخل إطار الاجتماعات، إلاّ أن ذلك لم يوفر سبباً كافياً لإعادة النظر بالخطط العسكرية التي وضعها الحلف قبل انعقاد القمة، إذ تقرر استمرار هذه الخطط التي تركزت على نشر أربع كتائب للحلف، تسودها أغلبية أميركية في بولندا ودول البلطيق الثلاث استونيا ولاتفيا وليتوانيا، إضافة إلى تعزيز القوات الأطلسية الموجودة أصلاً في رومانيا على البحر الأسود والحدود مع روسيا.
في مقالتنا هذه سنتجاوز قرارات القمة الأطلسية لنحاول الوقوف على مدى وحدة الحلف بدوله الثماني والعشرين خلف مصطلح «العدو» والموقف من هذا «العدو» وفي هذا السياق، نفترض أنه من المفيد العودة على الوراء قليلاً والوقوف أمام محطتين، من شأنهما إلقاء الضوء على مدى وحدة الحلف والتزاماته أمام أعضائه.
قبل قرابة عامين، قامت روسيا باستعادة أو ضم شبه جزيرة القرم التي كانت في اطار الدولة الأوكرانية، وبصرف النظر عن تاريخ هذه المنطقة وأحقية هذا الضم أو الاستعادة، وبالرغم من أن أوكرانيا ليست دولة من دول حلف الأطلسي، إلاّ أنها تعتبر الحديقة الخلفية للحلف كونها جارة لدول الحلف من ناحية، ولكونها على تماس مباشر مع «العدو» الروسي، لا الاتحاد الأوروبي، ولا حلف الأطلسي، تمكن أي منهما من منع هذا الضم أو الاستعادة، فرضت عقوبات وقامت مؤتمرات، من دون أن يثني ذلك الرئيس بوتين عن توسيع الاتحاد الروسي بضم شبه جزيرة القرم، وأكثر من ذلك، فإن بوتين، بنظر عواصم الغرب، قام بافتعال حرب داخلية في أوكرانيا، ما يهدد تقسيم هذه البلاد على نحو يفككها ويضعفها إلى حد بعيد، تلقت أوكرانيا المساعدات لكنها لم تتلق النجدة.
أما «الحالة التركية» فهي مختلفة تماماً من حيث عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، فقبل بضعة أشهر، تصاعد توتر مقلق وخطير بين موسكو وأنقرة إثر إسقاط تركيا لطائرة عسكرية روسية، ثمة تهديدات روسية مباشرة، إلاّ أن حلف «الناتو» توعد بالوقوف إلى جانب أنقرة بوصفها عضواً في الحلف، لكن أية متابعة لموقف «الناتو» الحقيقي يكتشف أولاً أن تركيا ملامة على الحادث الذي كان سبباً في التوتر، وان أي مواجهة ذات طابع إقليمي من الممكن، بل الضروري أن يتحول إلى مواجهة دولية، والحلف ليس بوارد الاندفاع إلى مثل هذه المواجهة من الناحية العملية، خاصة وأن الأمر، حسب تسريبات صحافية، لا يعدو كونه مغامرة «اردوغانية» طائشة، وليس من الصحيح أن ينجرّ الحلف وراء هذه المغامرة غير المحسوبة، في وقت كانت هناك مساعٍ جادة لتضييق شقة الخلاف بين موسكو وواشنطن حول «المسألة السورية» الأمر الذي يعتبر أولوية في مثل هذه الظروف. هذا بتاريخ مضى، حالياً، هناك الرئيس الفرنسي، الذي اعتبر في تصريح له، أن روسيا لم تعد تشكل تهديداً لبلاده، بينما اعتبرت مستشارة ألمانيا أن روسيا لم تعد العدو رغم أنها تختلق العديد من المشكلات، وأكثر من ذلك، تقول ميركل إنه لا ضمان لسلام العالم، واستقرار في اوروبا بدون دور روسي أساسي، إلاّ أن الأهم من كل ذلك، هو «الثورة التصحيحية» التي قام بها الرئيس التركي اردوغان، وربما أحد أسباب استدارته وإدارة الظهر لأميركا مؤخراً، يعود ولو جزئياً لموقف الحلف وأميركا من خلافه مع موسكو، فقد باتت تركيا، ولو بشكل مبسط، إحدى دول المجال الحيوي لدور روسي، انطلاقاً من الساحة السورية، وربما إلى أبعاد إقليمية ودولية إذا ما تطورت هذه العلاقات. انعقاد قمة حلف الناتو في «وارسو» له دلالته ورسالته الغربية إلى روسيا، وهي دلالة رمزية بامتياز، بينما رسالة مزدوجة من أنقرة وموسكو، إلى الحلف وهو منعقد في بولندا، أكثر فاعلية وتتجاوز العبرة الرمزية، على الرغم من أن سلاح الجو التركي هو الذي يحمي قمة حلف الناتو في «وارسو»!!
[email protected]
أضف تعليق