لمحتُه من بعيدٍ وهو ينظر إلى الوشم الأسودَ المُخطّطِ بغرز إبرة على ساعد يدي اليمنى، وكأنّه ينظر إلى قنبلةٍ موقوتة تكاد أن تنفجر..!
سمحَ لثلاثة أشخاص بالعبور، من دون أيّ تفتيش يُذكر أو استفسار يُعلَن، أحدهم كان يحمل حقيبةً سوداء..!

دنَوْتُ منه، فنظر إليّ مذعورًا، وسألني مُستفسرًا: "أتَتكلّم العبريّة"؟! حدّقت إليه؛ أجبته وابتسامةٌ مراوِغة تعلو وجهي: "نعم، بالطّبع أتكلّم لغتك العبريّة".

"جيّد.. قِف جانبًا، وأرِني بطاقة هُويّتك"! – قال لي الحارس الأمنيّ اليهوديّ "المُرتَعِب"، ذو الأصول الشّرقيّة، الّذي ما انفكّ نظرُه مصوّبًا نحو الوشمِ الأسودَ.

سألته مُستفزًّا: "ألأنّي لستُ حليقَ الذّقن أثرتُ شكوكَك؛ أم أنّ الجملة العربيّة الموشومة على ساعِدي أحنقَتكَ وأرهبتكَ"؟!

أحكم قبضته على سلاحه الإلكترونيّ الّذي يتأبّطه، وقال لي مُغتاظًا: "ناوِلْني بطاقة هُويّتك، وقِف جانبًا"!

فكّرت هُنيهةً ثمّ أرَيتُهُ بطاقتي الصِّحافيّة. حدّق بالبطاقة مُطوّلًا، نظر إليّ، أومأ رأسه وأشار إشارةً خفيفةً بيده طالبًا منّي الدّخول.

لم أرضخ لطلبه، فوقفت جانبًا، ثمّ قلت له حَرِدًا: "أودّ مقابلة مسؤول هذا المرفِق الأمنيّ".

تبدّلت ملامح وجهه، نظر إلى الوشم مجدّدًا، ابتسم ابتسامةً صفراويّة، وقال بكلّ سفاهة: "جميلة هذه الآية القرآنيّة الموشومة على ساعِدك! و..".
وقبل أن يكمل هذا الأبله المرعوب كلامه، قاطعته قائلًا: "إنّها ليست آية قرآنيّة ولا آية إنجيليّة". ثمّ أضفت شارِحًا: "إنّها جملة موشومة بخط النّسخ العربيّ الجميل، الّذي يجمع بين الرّصانة والبساطة".

سكتتُ برهةً قصيرةً، وقلت له بإصرار: "ما زلت انتظر قدومَ مديرِكَ". "ما خطبُكَ من وراء ذلك؟" – سألني.

"أودّ أن أستفسر منه عن سياسة التّفتيش الاختياريّة المُتّبعة في هذا المَرفِق العامّ، ومزاجيّة عناصر الأمن وتعاملهم اللّا-مُقسِط مع العابرين عبر بوّاباته المختلفة" - أجبته.

وأَضفت ضاحكًا: "سأجلس وأراقب عملكم. قد تشكّلون لي مادّةً إعلاميّةً تحقيقيّةً دسمةً لتقريرٍ صِحافيّ فاضح".

حاول الحارس الأمنيّ التّحدّث معي والتّودّد إليّ، لكنّي أعرته أذنًا صمّاء..

مرّت دقائق عديدة.. نظرت إلى عقربَيْ ساعتي، ثمّ استرقت النّظر إليه، وقلت له: "إنّ الوقتَ يداهمني؛ لكنّي سأعود حتمًا في القريب العاجل للوقوف عن قرب على استجواباتكم الانتقائيّة وتفتيشاتكم الاختياريّة".. ثمّ سرت بخطًى سريعة ثابتة باتّجاه فناء المرفِق الحكوميّ.
"أخي" – صرخ الحارس الأمنيّ بصوتٍ "أخويّ"!

التفتُّ إلى الوراء، نظرت في وجهه عابسًا، وانتظرت منه الآتي. "هل لك أن تُترجم لي الجملة العربيّة الموشومة على ساعِدك، لو تكرّمت؟" – سألني مُستفسرًا.

"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة" – قلت له بصوتٍ جهوريّ، وأمضيت السّير نحو هدفي داخل المرفِق. إنّ (فوبيا) رُهاب اللّغة العربيّة وكلّ ما يمتّ بصلة إلى العرب في هذه الدّولة العنصريّة، بات مرضًا نفسانيًّا خطيرًا، يعانيه القسم الأكبر من الغالبيّة اليهوديّة، فرُهاب الأقليّة العربيّة الفِلَسطينيّة - هذه الأقليّة المُتأصّلة في هذه الدّولة والمتشبّثة بأرضها وحقوقها - يقضّ مضاجعهم ويثير شكوك وتخوّف عناصر أذرعهم الأمنيّة، ليلَ نهار..!

لم أحمل لدى دخولي المَرفِق أيّ نوع من الأسلحة أو أيّ جسمٍ مشبوهٍ أو أيّ حقيبة سوداء داكنة قد تشكّل خطرًا على الأمن العامّ، لهدف تفتيشي ومساءَلتي، قبل عبوري أساسًا جهاز التّفتيش الإلكترونيّ.. إلّا أنّ الحارس الأمنيّ "الأمين" على أداء مهامّه، والّذي يعاني – كما تعاني الغالبيّة – رُهاب العرب والعربيّة، استوقفني وَفق معايير خاصّة، ضمن عمليّة تحقيق واستجواب تتمّ بصورة انتقائيّة واختياريّة.

نعم؛ فكلّ عابر سبيل يتحدّث العربيّة أو يحمل وشمًا عربيًّا أو كتابًا باللّغة العربيّة، أو يبدو من أصول شرقيّة، أو ذي بشرة سمراء داكنة؛ أو كلّ امرأة منقَّبة، أو شابّ مُلْتَحٍ، هو أو هي بمثابة قنبلة موقوتة تثير شكوك رجال الأمن والحِراسة، فتثير الانتباه وتقضّ مضاجع المارّة.

إنّ هذا التّصرّف من قبَل رجال الأمن في المرافِق والأماكن المختلفة، يؤكّد، مجدّدًا، سياسة التّفتيش الاختياريّة (سلكتيڤيت)، والعنصريّة المتّبعة في هذه البلاد.. فلِمَ لا يكون التّفتيش - كما الاستجواب - ساري المفعول على الجميع في هذه الحالة، من دون تمييز عِرْقيّ؛ وإلاّ، فلا حاجة للتّفتيش والاستجواب، أصلاً؟!

قد يستوقفني، في المرّة القادمة، حارسٌ أمنيٌّ آخر يعاني رُهاب العرب والعربيّة، ويقوم بتفتيشي والتّحقيق معي، لهدف ضمان سلامة المتواجدين والمارّة وأمنهم، فما الّذي يضمن لي أنا سلامتي وأمني في هذه الحالة؟ مَن يضمن لي، في خضمّ الحَمَلات التّحريضيّة ضدّ العرب، والأصوات الهائجة والعنصريّة والمحرِّضة والمُغرضة الّتي تُلَعلِعُ في كلّ مكان، حمايتي – وحماية كافّة الفِلَسطينيّين - من طعنة أو رصاصة أو بندقيّة رُهابيّ إرهابيّ؟!

(حيفا)

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]