منذ نشأتها قامت الصهيونية بتهجير حوالي 600 مدينة وبلدة وقرية في أنحاء فلسطين. منها ما أُطلق عليها المندثرة ومنها المهجّرة، ومنها غير المعترف بها التي ما زال الاستعمار يعمل على تهجير أهلها. اختلفت المسمّيات ولكن المعنى واحد والهدف واحد، تطهير عرقيّ. وأطلقنا على أهاليها المطرودين منها عدّة مصطلحات كاللاجئين والمهجّرين والنازحين، وفي هذه الحالة أيضًا تعددت الأسماء إلّا أن المعنى واحد والمصير واحد.
لقد كان في مئات البلدان الفلسطينية تلك مئات المدارس ومئات المساجد والكنائس والمقامات المقدسة وكان فيها مئات المقابر. قامت إسرائيل خلال فترات مختلفة وتحت ظروف متعددة وبأساليب متنوعة بتدمير الأغلبية الساحقة من المباني الفلسطينية في البلدان المهجّرة- خاصّة في القرى والبلدات الصغيرة- على كل ما حوته هذه البلدان من مُنشآت ومعالم ومقدسات، إلا ما ندر. ويجدر التنويه إلى أنه مهما تعددت الأسباب المباشرة والظروف العينيّة للهدم فإنه بالنهاية تدمير استراتيجيّ يصبو إلى محو ما هو أبعد مما تراه العين المجردة، محو الهويّة الفلسطينيّة من الحيّز. تطهير المنظر من سِماته الفلسطينيّة والإسراع في تهويده من أجل صياغة صورة جديدة للحيّز تطبع مع الزمن في أذهان ووعي الجمهور لتربيته وإقناعه بيهودية المكان.
ولما كان طرد الفلسطينيين الأحياء وهدم المباني التي فوق الأرض أمرًا مرئيًّا وسهل الملاحظة فإنّ مصير المقابر الفلسطينية والأموات المدفونين فيها ظلّ أمرًا منسيًّا لا سيّما في البلدات التي تمّ تهجير سكانها كلّيًّا إلى خارج حدود دولة إسرائيل. فمارست إسرائيل ومؤسساتها المختلفة ومواطنوها جرائم الهدم والتدنيس والانتهاك ضدّ المقابر الفلسطينية في البلدات المهجّرة بأشكال متعددة تقشعرّ لها الأبدان. فعلى سبيل المثال لا الحصر مُنحت مقبرة كفر سبت في الجليل (سْديه أيلان) ومقبرة يالو (پارك كندا) في المركز ومقبرة سمسم (چـڤاعوت بار) في الجنوب لأبقار المستوطنين ترعى وتجول وتصول في أرجائها وتدوس وتهدم القبور وتبول وتروث فوق الأموات. والقبور في بئر السبع والبصّة (شلومي) وقالونيا (موتسا) وطبريّة مهشّمة. ومقبرة جمزو أصبحت مسرحًا مرتجلًا للدراجات الناريّة والمركبات الجبليّة، بينما يمرّ مسار للدراجات الهوائية بشكل رسميّ على أطراف مقبرة أم برج (پارك عدولام- فرنسا). وشقّت السلطات الإسرائيلية شوارع على أجزاء من المقابر في دير ياسين وطيرة حيفا والشيخ مراد في يافا، مما يعني أنّ الأسوار التي بنيت حول هذه المقابر تحيط عمليًّا بجزء من مساحتها الأصليّة لا بكلّها. ودُفنت إحدى مقابر البصة (تظهر في خرائط بريطانية) تحت أحد المباني في شلومي، والمقبرة المسيحيّة في البروة تحت إسطبلات أحيهود، ومقبرة صمّيل في تل أبيب تحت موقف للسيارات. أما في معلول الجليلية فقد احتلّ معسكر للجيش الإسرائيليّ مقبرتها المسيحيّة ولا يمكن الوصول إليها.
وصمّمت عائلة إسرائيلية تستولي على بيت فلسطيني في عين كارم أن تشق طريقًا إلى المنزل من داخل المقبرة الفلسطينية هناك، رغم أن محكمة إسرائيلية منعتها من ذلك. وأحيانًا يقوم "الجيران" الإسرائيليون بإلقاء النفايات داخل المقابر الفلسطينية – رغم أنها محاطة بسور وبوابة بفضل مجهود قامت به الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني – مثلما يفعل سكان نيشر في مقبرة بلد الشيخ وسكان قريات عقرون في مقبرة عاقر. ممارسات صادمة أخرى تشير إلى أن الدولة اليهودية أقامت ساحة ألعاب للأولاد اليهود في "كفار شليم" في تل أبيب فوق عظام الموتى الفلسطينيين المدفونين في مقبرة قرية سلمة المهجّرة، كما لم تخجل أن تطلق اسم "حديقة الاستقلال" على الحدائق العامة التي أقامتها على مقبرة مأمن الله في القدس ومقبرة عبد النبي في يافا قرب فندق هيلتون تل أبيب. وفي الكثير من القرى المهجّرة "اختفت" معالم المقابر ولن ينتبه الزوّار أنهم يدوسون على مقبرة فلسطينية كما هو الحال مثلًا في لفتا وبيت سوسين وخربة العمور والقبو وغيرها.
خلال دراسة وبحث في تاريخ القرية الفلسطينية المهجرة دير أبان، قرب المدينة الإسرائيلية بيت شيمش، والواقعة اليوم داخل حرج تابع للصندوق القومي اليهودي (ككال) يُطلق عليه اسم " پارك استقلال الولايات المتحدة الأمريكية"، لم يكن من السهل تحديد موقع المقبرة رغم مرافقتي لأحد لاجئي القرية الذي قدم من مخيم الدهيشة قرب بيت لحم. فالمقبرة رغم اتساع رقعتها لم تشمل قبورًا مبنيّة بشكل بارز فوق الأرض ولم تقم أيّة جهة منذ تهجير دير أبان في تشرين الأول 1948، بأيّة أعمال ترميم أو بناء سور حولها. بعد يومين من التفتيش والتخبط في أنحاء القرية وبين بيوتها التي دمرتها إسرائيل عثرت على المقبرة صدفة. لكن فرحة العثور تعثرت بمشهد صاعق ومحزن للغاية، إذ وجدت كل القبور تقريبًا منتهكة وسطوحها محفورة، وعظام الموتى وجماجمهم/ن فيها مكشوفة، ومن الواضح أنها بفعل فاعل. عمل يبدو كاقتحام مدروس ومدبّر. مشهد صادم مقزز، واعتداء جارح مقيت مستفز للمشاعر. فيه انتهاك لحرمة الأموات وانتقاص من كرامتهم. لو تمّ جزء يسير من هذه الانتهاكات ضد مقبرة يهودية في أي مكان في العالم لقامت الدنيا وما قعدت وتتالت تصريحات الاستنكار والتنديد من كل حدب وصوب.
هذا النهج غير الإنساني – حتى ضدّ الأموات الفلسطينيين- يحصل في كثير من أحراج وغابات الصندوق القومي اليهودي التي تخفي بين أشجارها جرائم النكبة، وقد نسب هذا الصندوق الصهيوني بعض غاباته إلى أسماء دول وشعوب من أنحاء العالم مثل كندا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وجنوب افريقيا وغيرها– ومن الجدير أن تصلهم هذه الرسالة حتى يعرفوا كيف تقحمها الصهيونية قي جرائمها المباشرة ضدّ الشعب الفلسطيني من خلال إلغاء تاريخه وطمس هويته وتدنيس مقابره بعد أن نفته من وطنه وهدمت قراه ومدنه ومنعت عودته.
[email protected]
أضف تعليق