"تبدين مُشرقةً وفي غاية الجاذبيّة والرّوعة هذا الصّباح عزيزتي" – بجملة التّشبيب هذه استقبلتُ زميلةً لي لم أرَها منذ عدّة أسابيع.. احتضنتها بصبابةٍ، وقلت بكلّ عفويّةٍ: "هذا الفُستان الجميل المتدليّ على جسدك، يُغازل قدّك الميّاس، ويزيدك أنوثةً وجمالًا".
ابتسمَت، تورّدت خدّاها، وقالت بكلّ رقّة وخجل أنوثيّ لافت: "أشكرك على هذه الكلمات الإطرائيّة الّتي زادت صباحي إشراقًا وبريقًا، عزيزي".
جلسنا كما تواعدنا لنحتسي القهوة ونشربها شيئًا فشيئًا ونتحدّث سِجالًا.. وبعد مُضيّ بُرهةٍ على حديثنا، استذكرت جملتي "الاستقباليّة". فقلت لها مُبتسمًا ومُستفسرًا:
"آمل ألّا يكون تغزّلي الصّباحيّ قد أزعجك أو آلَمكِ".. صمتتُ هنيهةً، وأكملت مازحًا: "لست بحاجة إلى "الشّهرة الجنائيّة" الدّارجة في أيّامنا هذه، ولا إلى التّشهير بي من جرّاء جملة إطرائيّة/غزليّة".
ضحكَت ضَحكةً جهوريّةً، وردّت مازحةً: "يمكنني استغلالها فرصةً لأجعلك دُسمَة الرّجال (أسوأ الرّجال) وأقدّمك على طبق من فضّة كمادّةٍ إعلاميّة دسمة، تُضاف إلى مئات الشّكاوى والتّحرّشات الجنسيّة الأخيرة".
ابتسمت ابتسامةً صفراء، وقلت لها: "إنّ كيدكنّ عظيم، فعلًا"..!
نظرت إليّ وقالت: "لا تقلق.. فغزلك وإطراؤك عزيزي دغدغا أنوثتي، وشحناني بطاقات مهولة لاستتمام نهاري.."؛ وأضافت: "تأكّد يا صديقي العزيز، أنّ غالبيّة النّساء يسعدنَ لدى سماعهنّ كلمات إطراء أو "غزل عذريّ" عفيف ولطيف".
نعم.. إنّه خيط واهنٌ واحد وحقير فقط، يفصل بين الإطراء والتّحرّش؛ بين الرّجس والعفيف، بين الفظّ واللّطيف، بين الحريّة والسّجن!
وقد جاء في تعريف التّحرّش الجنسيّ على أنّه صيغة من الكلمات غير المرغوب فيها و/أو الأفعال ذات الطّابع الجنسيّ الّتي تنتهك جسد و/أو خصوصيّة و/أو مشاعر شخص ما، وتجعله يشعر بعدم الارتياح و/أو التّهديد و/أو عدم الأمان و/أو الخوف و/أو عدم الاحترام و/أو التّرويع و/أو الإهانة و/أو الإساءة و/أو التّرهيب و/أو الانتهاك و/أو أنّه مجرّد جسد مُغرٍ.
كانت كلمات الإطراء في حياتنا الاجتماعيّة اليوميّة، أمرًا مألوفًا وعاديّـًا، بعيدًا عن كونها تحرّشًا جنسيّـًا أو كلامّـًا مؤذيًا فظّـًا يعاقب عليها القانون! فَلِمَ باتت كلماتنا وجملنا الإطرائيّة في عصرنا هذا أكثر جرأةً ووقاحة ورجاسةً؟!
معلومٌ للقاصي والدّاني أنّي من أشدّ المدافعين عن المرأة والمناصرين لحقوقها، ولا لَبْس في ذلك. إلّا أنّ موجة شكاوى التّحرّشات الجنسيّة العارمة الّتي تكتسح البلاد، باتت أمرًا مُقلقًا ومؤشّرًا مُقضّـًا على علاقاتنا الاجتماعيّة الخوّارة وتعاملنا الإنسانيّ والأخلاقيّ.
نغتمّ لسماعنا شكاوى وتحرّشات جنسيّة، باتت أمورًا شبه عاديّة في سجلّ حياتنا اليوميّة؛ والأمر مُقلق جدًا وخطير.. العامل والموظّف والفنّان والمدير والمسؤول والشّرطيّ والضّابط والوزير والرّئيس مشتبه بهم ومتّهمون.. والضّحيّة هي الفتاة/المرأة!
أقولها دون تلعثم إنّ قلّةً من هؤلاء المشتبهين الكُثر هم الضّحيّة. ضحيّة فتاة أو امرأة تصحو بعد سبات عميق لسبب مجهول أو ضحيّة لعبة اجتماعيّة/سياسيّة قذرة تطفو بعد ركود.
على الفتاة/المرأة أن تضع فورًا ودون إبطاء، حدًّا لكلّ كلمة أو فعل غير مرغوب لأيٍّ كان إن لمست وفهِمَت منه، وبحقّ ثابت فقط، تحرّشًا جنسيّـًا أو انتهاكًا لأنوثتها وجسدها. وعلى الشّاب/الرّجل أن يكون ذكرًا بالغًا بتصرّفاته وأخلاقه لا بفحولته وشهوانيّته..!
لتكن كلماتنا ومعاملاتنا الإطرائيّة والثَّنائيّة عفيفة لطيفة، ولنحكّم أقوالنا وعقولنا وضمائرنا، كَيلا نحوّل الخيط الواهن بين الإطراء والتّحرّش إلى شبكة خيوط عنكبوتيّة نقع في شباكها وشِبكها عبر "الإنترنِت"، أيضًا!
(*) صحافيّ فِلَسطينيّ حيفاويّ، مدير تحرير صحيفة "حيفا"
[email protected]
أضف تعليق