تبادلت وسائل الاعلام في البلاد مؤخرا خبر قرار وزارة الداخلية تحويل قرية عرابة الى مدينة وقد لاقى هذا الخبر فرحة كبيرة لدى عموم المجتمع العربي في البلاد. ومع ان المجتمع العربي يطالب منذ سنين بتعزيز البلدات العربية والسلطات المحلية العربية وتوسيع نطاق نفوذها، علينا مع ذلك الا نتعجل في تقويم هذا القرار وبحث فوائده ومنافعه. وأقول ذلك لأن مجموعة لا بأس بها من البلدات العربية التي حوّلت في السابق الى مدن لا زالت تعاني حتى اليوم تخلفا كبيرا في جميع مجالات الحياة حين نقارنها بالمدن اليهودية.
لهذا فان السؤال الجوهري الذي يجب ان نطرحه بكل صراحة هو إن كان تحويل قرية عرابة الى مدينة هو الوسيلة الأنجع للنهوض بالقرية قدما اذا ما نظرنا الى قرية عرابة من حيث واقعها الاجتماعي والاقتصادي والعمراني، ام العكس هو الصحيح أي ان تحويل القرية الى مدينة أشبه "بعناق الدب" الذي سيؤدي الى تدهور قرية عرابة اكثر فأكثر؟
ولنقاش هذا الموضوع علينا ان نضع نصب أعيننا مجموعة من الأمور التي ستؤثر على فرص تطور قرية عرابة بعد تحويلها الى مدينة. من هذه الأمور أذكر أولا ان قرية عرابة تعاني نسبة كبيرة من البطالة ومتوسط مستوى المعيشة فيها يقع في اسفل السلم الاقتصادي المتبع في البلاد. ان هذا المعطى يؤثر على قدرة السلطة المحلية في جني المدخولات الضريبية من جهة وعلى قدرة السكان تطوير مصادر اقتصادية داخل عرابة تعود على البلدة بالمدخول الاقتصادي الوفير من جهة اخرى.
ثانيا، ان نسبة كبيرة من القوى العاملة وأصحاب الاعمال والمهن والحرف والاعمال الحرة في قرية عرابة تعمل خارج القرية وليس داخلها وذلك لانعدام المتاجر والمصانع وفرص العمل داخل القرية. هذا يعني ان نسبة الاستثمار الداخلي في البلدة ضئيلة وهو ما يعوّق تطوير البلدة اقتصاديا ويبعد إمكانية ان تصبح السلطة المحلية عصامية ماديا وهو هدف هام جدا. ثالثا، على الصعيد التخطيطي فان هناك مئات الوحدات السكنية غير المرخصة في قرية عرابة والتي بنيت اضطرارا لانعدام مسطحات البناء.
وفي الواقع ان الإجراءات التخطيطية لتوسيع مسطحات البناء في قرية عرابة لم تنته بعد وجلها عالق في مخططات التوحيد والتقسيم المضنية والعسيرة. كيف ستتعامل مدينة عرابة مع هذه البيوت وهي كثيرة؟ عرابة تعاني أيضا نقصا كبيرا في المناطق المخصصة للتجارة والصناعة والحرف ومجال الالكترونيكا. فكيف ستستطيع عرابة ان تتطور اقتصاديا اذا خلت من هذه المناطق التي تؤمن أماكن العمل للسكان وتدخل للسلطة المحلية عائدات مالية كبيرة جدا؟ بالإضافة الى ذلك، حتى بعد تحويلها الى مدينة ستبقى قرية عرابة تابعة من حيث القرارات التخطيطية وإصدار رخص البناء للجنة الإقليمية للتنظيم والبناء "ليف هجليل"، ولم يشتمل قرار وزارة الداخلية كما تناقلته وسائل الاعلام على إعطاء بلدية عرابة العتيدة صلاحيات تنظيم وبناء. رابعا، ان نمط الحياة وثقافة السكان في عرابة، والذي يتمثل بنمط البناء المألوف في الوسط العربي، العائلات والحمائل، الحياة الاجتماعية والثقاقية والأدبية والعلمية لا زالت تدرّج تحت ما يسمى بالطابع القروي. بالطبع لن يتغير هذا الطابع القروي بين ليلة وضحاها بعد تحويل عرابة الى مدينة، بل على العكس ان تحويل عرابة الى مدينة مع ان طابع القرية ما زال نموذجيا للقرية العربية في البلاد يشكل تحديا كبيرا لفكرة تحويل عرابة الى مدينة. ذلك لان تحويل بلدة ما الى مدينة يحتّم على سكانها نهج "سلوكيات مدنية" تختلف عن طابع القرية، ومنها من حيث نمط البناء وطريقة العيش والسكن والحياة العامة في البلد وغيرها من الأمور التي تكوّن المدينة.
إذاً، تحويل قرية عربية الى مدينة ليس بالامر السهل. بل دلّ الواقع أن هذا الحل ليس الوصفة السحرية لحل مشاكل البلدات العربية. انظر مثلا مدينة الطيبة والتي غرقت في ديون بعشرات ملايين الشواقل أدت الى حل بلدية الطيبة وإدارتها من قبل لجنة منتدبة من وزارة الداخلية قرابة العقد حتى الانتخابات الأخيرة في المدينة. وقد نتج هذا الوضع السيء بالاساس نتيجة الخنق التخطيطي والاقتصادي على المدينة الذي لم يمنح مدينة الطيبة فرصا حقيقية للتطور وتعاني المدينة من ذلك حتى الآن. انظر أيضا مدينة الناصرة التي تعاني من اكتظاظ سكاني كبير لانعدام فرص حقيقية لتوسيع مسطحها العمراني حتى أصبحت مدينة نتسيرت عيليت التي أقيمت على أراضي مدينة الناصرة والقرى المجاورة لها ملاذا للشباب والعوائل من ابناء المدينة! وقس على ذلك من الأمثلة لبلدات عربية يزداد وضعها سوءا اكثر فأكثر ولم يسعفها تحويلها إداريا الى مدنٍ.
لهذا كله لا يمكن في نظري الترحيب بفكرة تحويل عرابة الى مدينة الا بعد ان يتوفر أمامنا برنامجٌ شاملٌ يتعامل مع النواحي الاقتصادية والتخطيطية والاجتماعية للبلدة وينظّم الموارد والوسائل الضرورية لتطوير البلدة كمدينة حديثة. ومن الجدير بالذكر ان المؤسسات الرسمية ولجان التخطيط تطلب برنامجا من هذا النوع حين تتداول في مخطط لضم منطقة معينة الى سلطة محلية وفي حالات شبيهة بذلك. وعند غياب برنامج كهذا يتوجّب علينا ان نفكر مليا ان كان تحويل القرية الى مدينة هو الحل الأنسب فعلا في الظروف الحالية للقرية. ابغي بهذا ان يعود تحويل بلدة عرابة الى مدينة بالخير على القرية وسكانها وليس بالشرّ. وعلى غرار القصة الشهيرة للصياد وتلميذه، في رأيي قد لا يكمن الحل في اعطاء قرية عرابة "سمكا" بل في تعليمها "صيد السمك" وهو ما قد يضمن لها مستقبلا زاهرا ومشرقا اكثر من كونها مدينة على الورق فقط!
*يعمل الكاتب أيضًا باحثًا للقب الدكتوراة في القانون في جامعة تل أبيب.
[email protected]
أضف تعليق