ثلاثة وسبعون يوما واكثر، يواصل الاسير الصحفي محمد القيق اضرابه المفتوح عن الطعام احتجاجا على اعتقاله الاداري التعسفي ، وصعودا صعودا نحو الحياة، وصل الى ذروته جسدا وروحا وصمودا، وصعودا في السماء تفوقت إرادة الحرية على ارادة الموت في السجون.
في المؤتمر الصحفي الذي عقد امام الصليب الاحمر الدولي في رام الله قالت زوجة الاسير محمد القيق: خلصّنا حكي، قلنا كل ما عندنا لكم، وقذف زوجي محمد كل ما في جسده وقلبه وعضلاته من احلام وماء وكلام ودماء، خاطبنا كل من يسمع ولا يسمع، المؤسسات الدولية والحقوقية، الجهات السياسية ومنظمات حقوق الانسان، حتى صار الحكي صدى يتردد في فراغ الكون.
خَلصّنا حكي، ثلاثة وسبعون يوما وطلقة في جسده النحيل، يذوب رويدا رويدا في ذلك الصمت البارد داخل مشفى العفولة الاسرائيلي، تقيأ حكايته كلها منذ ان اعتقلوه وعذبوه وكسروا قلبه وشطبوا صورته، ارادوا ان يشطبوا فلسطين من الخطاب والعبارة، وأرادوا استهداف صوت الحجر والرسالة.
خَلصّنا حكي، ها هو مقيد على سرير المشفى، تحول الى هيكل عظمي، أعطى كل ما في داخله وجلس على عرش اليقين، جسمه ضعيف، فقد الكثير من الوزن، لا يستطيع الوقوف ، لا يستطيع النطق ويجد ثقلا في السمع ، وقد اصبح نظره ضعيفا ، واحمرار متوهج حول عينيه، اوجاع كالابر تنخر ما بقي في هيكله الجسدي، لا نوم ولا يقظة ، قطع المشوار جميعه الى آخر نقطة في خطوات الكلام للبشر واللغة.
خَلصّنا حكي ، قلنا ان الاعتقال الاداري هو سياسة تعذيب بحق الاسرى ، وتستخدمه دولة الاحتلال للانتقام منهم، وانه صار سيفا مسلطا على رقاب الآلاف من المعتقلين، يرزحون في السجون دون محاكمات عادلة، لا يعرفون مواعيد حريتهم ولا اسباب اعتقالهم.
خَلصّنا حكي، قلنا ان محاكم الاحتلال العسكرية، والجهاز القضائي الاسرائيلي ليس اكثر من ختم مطاطي لسياسة اسرئيل الرسمية، وغطاء لقوانينها العنصرية، لا مراهنة على قضاة متطرفين يلبسون البزة العسكرية، ويطلقون الاحكام والرصاص على الاسرى في قاعة المحكمة.
خَلصّنا حكي، لم يبق فيه سوى جزئيات تتحرك هنا وهناك، وهج ايمان وامل، تتراءى امام بصره الضعيف قوافل حلم، خيول، براكين، صلاة جماعية في باحات القدس الشريف، ترانيم مقدسة فوق الكنائس في ليلة برد وميلاد.
خَلصّنا حكي، زمانه يتجدد بشكل آخر، يخلع ثوب العبودية ويرتدي ثوب الحرية ، بينما زمان الاسرائيلين يحتضر ، صاروا خارج النص الطبيعي للوجود، تجاوزا خطوط البشرية العادية الى الفاشية ، وتجاوزا ثقافة الانسانية الى ارتكاب الجريمة ضد الانسانية.
خَلصّنا حكي، لا يريد الكمال ، ولا يطلب المستحيل، يريد ان يرى اطفاله وصورهم وهم يلعبون، ولهذا تأخر موته لأجل غير معلوم، شهقاته تنفجر في شهقاته حنينا يوحي بطين المكان، ويقترب ضوء بين عينيه هو ملاك الصغار.
خَلصّنا حكي، يولد كل صباح، خارج توقيت تل ابيب العسكري، ينهض، يشهد، يستنفر الاطباء الذين عجزوا عن سماع دقات قلبه، ويستفزهم اكثر عندما تمتزج عناصر الروح السبعة فيه، كوكب ترابي ، يرى بأشلائه ويدخل مدار الاساطير.
خَلصّنا حكي، ينهض في الصباح ، يراهم جاهزون لإطعامه او علاجه قسريا، يفرك وجه الليل بالصبر والصلاة، يدعك جسده الواهن بالدعاء وبالآيات، يحلق في الغيم، ليقولوا: عجبا لازال في وعيه، يسيل كلامه على حصير الوقت اقوى من الصمت.
خَلصّنا حكي، ثلاثة وسبعون يوما وأكثر، هي لعبة الموت، وقضاة المحكمة العليا الاسرائيلية اعطوا الموت مجالات اكثر كي ينتصر عليه، ولم يعد الموت الى قاعة المحكمة، عاد صوت محمد القيق كمعجزة استيقظت من ذرات التراب.
[email protected]
أضف تعليق