الصوت الحر لا يموت لكن وداعه يكسر شيئا من الطمأنينة. وهذا ما فعله رحيل محمد بكري، الممثل والمخرج الفلسطيني الذي لم يكن يومًا تفصيلاً في المشهد الثقافي، بل أحد أعمدته الأخلاقية. الذي رحل في أيام الميلاد تحديدًا نهاية 2025، وكأن الغياب اختار توقيته بعناية قاسية، ليضعنا أمام مفارقة جارحة: أن نفقد من كان يذكّرنا بأن الأمل لا يولد من الطقوس، بل من الصدق، وأن الكرامة ليست شعارًا موسميًا، بل شرط حياة.
برحيله، لا نفقد فنانًا فقط، بل نخسر شاهدًا نادرًا على زمنٍ حاول كثيرون تلميعه، ففضحه، وزمنٍ حاول إسكات الرواية، فواجهه بصوته وجسده وكاميرته. محمد بكري لم يكن ممثلًا يؤدي أدوارًا، بل إنسانًا عاش موقفه حتى النهاية، ودفع ثمنه ملاحقاتٍ سياسية وقضائية، لم تكن استثناءً في سيرته، بل امتدادًا منطقيًا لخياره الواضح: أن يكون الفن فعلَ كرامة. فلم يكن فنه ترفًا، ولا حضوره عابرًا. كان فعل مقاومة متجذّرًا، يعرف كيف يتسلل إلى الوجدان دون ضجيج، ويترك أثره طويل الأمد. في زمنٍ تُقاس فيه القيمة بعدد المنصات، أصرّ بكري على مقياسٍ آخر، لخصه بسؤالٍ بسيط، موجع، ومباشر: "الإنسان شو بدون كرامة؟"
لم يكن هذا السؤال شعارًا بل خلاصة رؤية، ومفتاحًا لفهم مسيرته كلها؛ فالكرامة، في وعيه، لم تكن فكرة مجردة، بل خيارًا أخلاقيًا مكلفًا. فصار صوته جزءًا من الذاكرة الجمعية، لا يمكن فصله عن سردية المكان والإنسان. لم يمثل فلسطين كفكرة، بل عاشها كوجعٍ مفتوح، وكمسؤولية، وكالتزامٍ أخلاقي لا ينتهي عند خشبة المسرح أو عدسة الكاميرا. فتجلّت هذه الحقيقة بوضوح في أعماله الخالدة: يرموك (سواد) وجنين جنين وغيرها التي لم تكن مجرّد منجزات فنية، بل شهادات تاريخية دفعت ثمن صدقها حصارًا وتشويهًا وملاحقة. وبالطبع، لا يمكن تجاوز «المتشائل»، ذلك العمل الذي تحوّل من نص مسرحي إلى مرآة وجودية، نرى فيها أنفسنا بلا مساحيق، وبلا أعذار.
أستعيد لقائي به قبل سنوات، في عرضٍ لمسرحية تجاوز عمرها العشرون عامًا ولم تشخ. كأن الزمن احترم حضورها، فلم يجرؤ على كسر حدّتها. كان دوره في «المتشائل» استثنائيًا؛ ساخرًا سخرية موجعة، تشبه الضحك في حضرة الفقد. كلماته تًشعرك أنك جزء من النص دون أن تدري. دفء صوته يُسمعك حنينًا لجد حكيم يفتح لك نوافذ الأيام الموصدة لتعي أنك تعيش في سباتٍ طويل، وأن اليقظة وإن كانت مؤلمة، فهي ضرورة لا مهرب منها. فوضعني أداؤه أمام مرآة جارحة لواقع نعيشه ولا نراه بعد ان اعتدنا أن المشي معصوبي الأعين.
في «المتشائل»، بدا الدور بسيطًا في شكله، عميقًا في مضمونه. كلام يُقال في الصميم، يخلق مفارقة لا تُحتمل: أنبكي على واقعنا أم نسخر منه؟ ذلك الإحساس الثقيل الذي رافقني بعد العرض، إحساس يشبه الحقيقة حين تُقال بلا رتوش، ويشبه الحزن حين لا يجد لغة أخفّ ليُقال بها. تحاورت معه بعد العرض حول العبقرية الدلالية في تسمية «المتشائل» التي نجحت في احتواء التناقض الوجودي الفلسطيني في تركيبٍ لغوي واحد، لا يميل إلى التفاؤل الساذج، ولا يستسلم للتشاؤم الكامل. تسمية ذكية، موجعة، تختصر حالة العيش على الحافة، وتفتح سؤالًا لا ينغلق: إلى متى سنبقى معلّقين بين أملٍ نخشاه ويأسٍ نألفه؟
لا اكتفي بالكتابة لأنعي رحيل بكري وأشعر بثقل الخسارة الثقافية والمجتمعية لشعبنا. فبوداعه نفقد أحد آخر الأصوات التي امتلكت شجاعة الربط بين الفن والضمير والمسائلة. وبرحيله يخلو المشهد من شاهدٍ لم يقبل أن يكون محايدًا، ولا أن يُفرغ الفن من معناه الأخلاقي، رغم سنوات طويلة من الملاحقة السياسية والقضائية التي سعت إلى كسر صوته وتشويه رسالته. فهو من آمن بأن الفن رسالة تمتد لعقود، وتُقاس بصدق المواقف فقال ذات مرة "الممثل الي ما عنده كلمة هادفة شو بدي فيه". لذلك بقيت أعماله محفورة في الذاكرة، لا بوصفها أدوارًا ناجحة فحسب، بل كمواقف لا تُشترى ولا تُقايَض. وهذا ما جعل البكري استثناءً نادرًا في عالمٍ يزداد فيه الضجيج، ويقلّ فيه المعنى.
في غياب صوته الحر، يزداد الصمت ثِقلاً. برحيله لا يُسدل الستار على سيرة فنان، بل يُعلَن حدادٌ ثقافي على مرحلةٍ كان فيها الفن شاهدًا، وذاكرة، ووصية أخلاقية لا تقبل المساومة. فأعماله تُعد أرشيفًا فنيًا، نستعيد فيه ما تبقّى من معنى الفن حين كان موقفًا، وحين كانت الخشبة مساحة مسائلة لا منصة ترفيه، وحين كان الصوت الفردي قادرًا على أن يكون ضميرًا عامًا. وما دام سؤال الكرامة مطروحًا في هذا العالم، سيظل صوته حاضرًا، يهمس في وعينا الجماعي: "الإنسان شو بدون كرامة؟".
[email protected]
أضف تعليق