في البدء كان السؤال! في البدء كان مع الكلمة، لكنه هنا، على هذه الأرض سيطول حتى لكأنني أرى من بعيد من يهتف في النهاية سيظل السؤال! عرض رئيس المعارضة عضو الكنيست يتسحاق هيرتسوغ (المعسكر الصهيوني) منتصف الأسبوع السابق، خطة سياسية جديدة يقترح فيها فصل القرى الفلسطينية في القدس الشرقية عن سائر المدينة، واستكمال بناء جدار الفصل في الضفة الغربية بحيث يضم جميع كتل المستوطنات الكبرى إلى إسرائيل؛ فلا مجال لتحقيق حل الدولتين، وفقاً لكلامه في الفترة الحالية.
وينسجم ذلك مع ما ذكرته مصادر خاصة «أن إسرائيل اقترحت على فعاليات حركة فتح في القدس الشرقية ومخيماتها، أن تقيم شرطة جماهيرية خاصة بها لحفظ النظام وأمن المخيمات والأحياء العربية ومنع الاعتداءات على الإسرائيليين، وفي المقابل تمتنع القوات الإسرائيلية عن الدخول إلى هذه الأحياء ومخيم شعفاط وعناتا دون تنسيق مع الفعاليات. وأشارت المصادر إلى أن هناك نية إسرائيلية لمنح فلسطينيي القدس والأحياء المجاورة ما يشبه حكماً ذاتياً فيما يتعلق بالأمن والترتيبات التنظيمية هناك بالتنسيق مع إسرائيل».
أصعب تفكير هو التفكير السياسي! في البدء كان السؤال! كان: هل ستوظف إسرائيل الأحداث سياسياً؟ سؤال بدأ بتردد، ثم بدأ يصير أكثر حضوراً. وهو سؤال ينبع من خشيتنا خصوصاً أن إسرائيل تبدع في التوظيف وتسعى إليه، فقد وظفت الانتفاضة الثانية لمصادرة الأراضي، وعمل أمر واقع على الأرض يجعل قيام دولة فلسطينية مستقلة أمراً في غاية الصعوبة.
هم خبراء في شؤوننا، ونحن خبراء في شؤونهم، لهم مخاوفهم ولنا مخاوفنا، لهم مخاوفهم بعيدة الأمد، ولنا مخاوف متوسطة وقصيرة، فما نتخوف منه غير ما يتخوفون منه، لذلك فهم يريدون ليّ مسار التاريخ وصيرورته، ونحن نثق بهذا المسار. هم يعرفون ونحن كذلك أن الزمان غير ملائم، في ظل التشظي العربي، وفي ظل مآس دول الربيع العربي الكارثية النكبوية.
وفي ظل أنهم يناهضون حل الدولتين، وحل الدولة الواحدة لشعبين، فإنهم يدفعون بالأحداث لتعميق رؤيتهم الرافضة للحلين الممكنين. أصعب تفكير هو التفكير السياسي، لأننا لسنا في عقول صناع السياسة، ولا ندري ما يتم طبخه على نار هادئة. من الأمور التي تحدث داخلياً هي وجود مراكز القوى والمحاور، وهذا أمر عادي، فمن الطبيعي وجود تنافس سياسي.
لكن غير العادي، هو ما يدفع به موظفو الأحداث، لجعل الاستقطاب السياسي الفلسطيني أكثر وضوحاً، خصوصاً الاستقطاب داخل الفصائل الوطنية، حركة فتح تحديداً، مع شخصيات وتيارات أخرى. وليس هناك ضمان بألا يثير الاستقطاب السياسي عنفاً ما، قد يمتد إلى خارج نطاق النخب القيادية. في هذا الوقت توظف الحكومة الإسرائيلية حراك الشباب الفلسطيني الحاد، كي تستعيد الأرض الإعلامية والسياسة عالمياً، بتخليص نفسها من إرهاب الدولة والمستوطنين، وإعادة لصقها بالفلسطينيين.
وفي ظل تزايد استعادتها لتلك الأرض (صورتها كدولة ديمقراطية)، فإنه سيسهل عليها تبرير ما يمكن أن تصنعه عسكرياً من باب الدفاع عن أمنها المهدد، وستجد آذاناً هنا وهناك تستمع لها بل وتؤيد. وما ستصنعه عسكرياً-مادياً من بطش وقمع وتنكيل هو أصلاً مقدمة لفعل سياسي، ففي أية ظروف مرتبكة وقلقة في ظل نزاعات داخلية، مرتبطة بفعل عسكري إسرائيلي، ستتهيأ الفرصة لاغتنام اللحظة المؤاتية-الشرارة، لدفع الفلسطينيين نحو طلب الخلاص من الجامعة العربية، حيث ستفحص الأسرة العربية والدولية، والأمريكية، واللجنة الرباعية بشكل عام خيارات مختلفة، منها ما هو قديم أيضاً.
وهي تمهّد لذلك بتخويف السلطة الوطنية، حيث «يعتقد الصحافي آفي يسخروف أن السلطة الفلسطينية لن تنهار دفعة واحدة؛ بل على مرحلتين من الفوضى. يعتقد يسخروف أن عملية الانهيار قد بدأت بالفعل. ... ويعتقد يسخروف أيضاً أن المسألة لا تتمحور حول ما إذا كانت السلطة ستنهار بل تتمحور حول موعد انهيارها». لذلك لا يستبعد أن تجرّ إسرائيل الفلسطينيين لشيء من عسكرة الحراك لتحقيق أهداف سياسية، حيث يقول يسخروف: «قد نشهد في المرة القادمة تبادلاً لإطلاق النار بين الشرطة الإسرائيلية والشرطة الفلسطينية. قد نشهد في المرحلة المقبلة قرارات لحوادث منعزلة مثل حادثة مازن عريبة.
هنالك عدة طرق يمكن أن تنزلق الأحداث فيها إلى أعماق لا رجعة فيها. أنا متشائم جداً». (من مقال ترجمته وكالة معاً بعنوان: تصريحات فرج وعريقات عن انهيار السلطة 20/1/2016). أما الأهداف، فهي أن يطلب الفلسطينيون تدخلاً دولياً-عربياً، ويأتي ذلك كله، وحتى تؤكد إسرائيل على موقفها الرافض لحل الدولتين وحل الدولة الواحدة، فإنها ستدفع بالحراك السياسي نحو جعل الفلسطينيين ينشدون خلاصهم اليومي للبحث عن حلول لهم كسكان، وليس كشعب. وتختار إسرائيل مزاج الشعب الذي في ظل ما ينشده من خلاص، لن تقلقه كثيراً المشكلة الكيانية-الدولانية، لذا فإنه سيهرب طالباً النجاة من الانفتاح السياسي على شرق الأردن، لتجربة الكونفدرالية بين فلسطين (الكانتونات) والأردن، حيث ستوافق إسرائيل وسترى في ذلك خلاصها من حل الدولتين، ما دام أنها تضمن وجودها على طول الوادي. وحتى تبدو إسرائيل مرنة وذات نوايا سليمة، فإنها ستوافق على مضض باختراق سياسي لقضية القدس، كما ذكرنا سابقاً عن اقتراحها على حركة فتح في القدس، حيث يقول مصدر أمني إسرائيلي: «إن الخطوة قد تفسر على أنها تقسيم فعلي باعتراف رسمي إسرائيلي للمدينة التي تعتبرها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بشرقها وغربها، عاصمة موحدة أبدية لها، معتبراً أن الأمر سيؤدي إلى إحراج كبير للحكومة اليمينية لبنيامين نتنياهو».
ويمكن أن يتأتى ذلك من خلال تحويل الولاية الدينية للملكة الأردنية الهاشمية إلى ولاية سياسية على جزء من القدس الشرقية، بالمشاركة مع الأطراف ذات العلاقة فلسطينياً وعربياً ودولياً، خصوصاً أن هكذا مشاركة في إدارة القدس تم اقتراحها من عقود، ضمن ما سمي وقتها بتدويل القدس. وحتى تبدو إسرائيل ذات نوايا حسنة، فقد جعل يتسحاق هيرتسوغ البند 6 قبل الأخير على النحو: «القيام بخطوات بانية للثقة حيال الفلسطينيين. قال هيرتسوغ: «سيكون من حق الفلسطينيين أن يفعلوا ما يشاؤون من الناحية المدنية وليس العسكرية. يستطيعون بناء مدن جديدة، وتوسيع المدن الموجودة، وتطوير الزراعة والصناعة والعمالة».
فهل بدأت إسرائيل فعلياً بتوظيف الحدث سياسياً؟ تصريح رئيس الوزراء بتشديد ردود الفعل، إنما يأتي في ظل السعي الإسرائيلي، للخروج من الأمور العسكرية، نحو الأمور السياسية، والتي هي أصلاً أسست لها من خلال بناء جدار الضم والتوسع داخل الضفة الغربية. حتى تستطيع إسرائيل النجاح بذلك، فإنها ستدفع الفلسطينيين إلى انتخابات، ولربما تعترف إسرائيل بالدولة الفلسطينية التي تعلن لوقت محدد، لتلبية الحاجات الوطنية الرمزية للشعب الفلسطيني.
وعربياً، ستتصالح مصر مع حركة حماس، بتشجيع ووساطة الدول العربية، حيث سيدفع الجميع إجراء مصالحة حقيقية بين فتح وحماس، وإغلاق هذا الملف. هي كونفدرالية لكن بتسوية على النحو التالي: - فلسطين كيان سياسي، يرتبط بالمملكة الأردنية الهاشمية. - إجراء تغييرات غير جوهرية في الضفة الغربية، ما يضمن بقاء المستوطنات، وتنقل الفلسطينيين بحرية، مع تكرار ما يسمى بإعادة الانتشار، بوجود قوات أمن أردنية ودولية إلى جانب القوات الفلسطينية في خطوط التماس. - حل مشكلة القدس على السيناريو المذكور. - ترك قضية اللاجئين مفتوحة لاجتهادات دولية طويلة الأمد. هذا ما يمكن أن تصل به الحكومة الإسرائيلية عن طريق توظيفها للحدث الفلسطيني المشتعل على الأرض. وهكذا، سيكون هذا الحل أكثر إرضاء لإسرائيل أولاً!
[email protected]
أضف تعليق