بعد أن تجاوز عمر الانتفاضة حاجز المئة يوم، وحاجز النقاش بشأن طبيعتها ومداها، إن كانت هبّة شعبيّة أم موجة انتفاضيّة، أم احتجاجا صارخا، أم انتفاضة، بعد كل هذا يبدو أن الانتفاضة قد أحدثت إرباكاً لدى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء. السياسة الرسمية الإسرائيلية لم تعد تعرف كيف ستخمد الانتفاضة ولذلك فإنها تتخبط في التعامل مع الميدان، وليس لديها ما يبرر لها الضغط على القيادة الفلسطينية والسلطة، طلباً لدور في إنهاء الانتفاضة، لا تملكه هذه القيادة، وفي الوقت ذاته لا ترغب إسرائيل في اتخاذ إجراءات قوية ضد السلطة، حتى لا تذهب في اتجاه تنفيذ قرارات المجلس المركزي الفلسطيني.
لكن إسرائيل تظهر اصراراً على متابعة مخططاتها التوسعية ورفضها لرؤية الدولتين، وتدير ظهر المجن لكل القرارات والقوانين الدولية، ولتحذيرات حلفائها، وتنزلق أكثر فأكثر نحو مستنقع العنصرية والتمييز ضد الفلسطينيين كل الفلسطينيين بما في ذلك وأساساً الفلسطينيون في اراضي 1948. الجيش الإسرائيلي مشلول، وقد تحول إلى شرطة، ويتمنى أن يبادر فلسطينيون لاستخدام السلاح على نطاق أوسع، حتى يعود لاستخدام قوته التدميرية كجيش احتلال. وعلى الصعيد الإسرائيلي، ايضاً، يحدث اختلال متدرج، المسألة الأمن الشخصي والجماعي، لكن هذا الاختلال لم يصل بعد إلى مستوى الأزمة الداخلية التي تستدعي نشوء معارضة قوية من نوع الأمهات الأربع، بسبب ما خلفته السياسة الاستيطانية لإسرائيل من أزمات.
كان على الفلسطينيين أن يشتغلوا أكثر على الجبهة الداخلية الإسرائيلية سواء من خلال لجنة المتابعة العربية، وأحزابها في الداخل الإسرائيلي أو من خلال مخططات سياسية تتعمدها السياسة الفلسطينية الرسمية لتعميق التناقضات داخل المجتمع السياسي الإسرائيلي الذي تهيمن عليه الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتي تقع تحت تأثير الجماعات الاستيطانية، والتوراتية المتطرفة. غير أن السياسة الرسمية الإسرائيلية تعرف ما تريد وإلى أين تتجه رغم كل هذا الارتباك، وإزاء إمكانية نجاح مخططاتها التوسعية التي تنطوي على أبعاد استراتيجية، ستكون مستعدة وهي قادرة على دفع الثمن الذي سيبدو زهيداً مقابل ما ستحققه لإسرائيل من مكاسب.
على الطرف الآخر، تبدو السياسة الفلسطينية، وكأنها مشلولة وغير قادرة على استثمار الانتفاضة ومفاعيلها، أو على الاستفادة من حالة الارتباك التي تعاني منها إسرائيل. الفلسطينيون، حائرون، بشأن مشروعهم الوطني، الذي لم يعد معرفاً، فهم يناضلون من أجل حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، على الأراضي المحتلة العام 1967. يعرف الفلسطينيون الكبار منهم والصغار، السياسيون وغير السياسيين أن إسرائيل أطاحت بكل مكوّنات هذا المشروع ولقد غدا حلماً دون المستحيل، موضوع حق العودة، وصادرت إسرائيل أو هي تتجه نحو مصادرة عاصمة الدولة الفلسطينية. فيما تتعرض أراضي الدولة، للاستباحة ولمخططات التوسع والمصادرة والضم.
الدولة الفلسطينية كعنوان للمشروع الوطني اصبحت بعيدة المنال، وبعيد عن المنال، حل الدولة الواحدة لشعبين سواء كانت ديمقراطية أو غير ديمقراطية، ذلك أن إسرائيل تتجه نحو الدولة اليهودية العنصرية، التي تضم معظم أراضي الضفة الغربية بالإضافة إلى القدس. لماذا يغيب هذا النقاش، وما الفائدة من تأجيله إلى أن تفرض إسرائيل الوقائع التي تجعل مثل هذا النقاش مجرد كلام فارغ، وعلى من تقع مسؤولية اقتحام هذا الملف اليوم وليس غداً؟ نتفهم الحاجة لمواصلة الحديث عن الرغبة في تحقيق السلام، ومخاطبة المجتمع الدولي باللغة التي يفهمها، وتستند إلى قرارات الأمم المتحدة، ولكن هذا لا ينبغي أن يمنع الفلسطينيين من أن تكون لديهم رؤية واضحة تجاه مشروعهم الوطني وكيفية مواجهة المخططات الإسرائيلية التي يتسارع تنفيذها على الأرض. وعلى الجانب الفلسطيني، أيضاً، لا يزال الانقسام يضرب جذوره عميقاً في الأرض، ولا تزال الأجندات الفصائلية والخاصة دون الوطنية هي العنوان الأبرز للعلاقات الفلسطينية بينما تتوالد وتتعمق الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية لدى أغلبية المجتمع الفلسطيني.
لقد طال أمد التحذيرات التي أطلقها الرئيس محمود عباس من على منبر الأمم المتحدة، بشأن التزام السلطة بشروط أوسلو، بعد أن تخلت إسرائيل عن التزاماتها تجاه تلك الاتفاقية، ويكبر التساؤل حول ماهية الظروف والشروط التي ينبغي توفرها لوضع قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير موضع التنفيذ. لا تزال الفصائل متحفظة تجاه دعم والتفاعل مع الانتفاضة التي لم تحظ بعد بالعمق الشعبي المطلوب، فيما تتعمق الخلافات الداخلية، على خلفية التنافس المحتدم لخليفة الرئيس محمود عباس في حال أصابه مكروه أو قرر اعتزال العمل السياسي. وفي الاتجاه ذاته نتساءل: أين أصبح موضوع انعقاد المؤتمر السابع لحركة فتح، الذي تم تأجيله أكثر من مرة، ولا يبدو أن ثمة سقفا للتأجيل، وأين أصبح موضوع دعوة المجلس الوطني الفلسطيني والحديث الكثير حول الحاجة للتغيير والإصلاح والتجديد أم أن الحسابات بالنسبة لهذين الملفين لم تعد تحقق مصالح الأطراف التي أثارت كل هذه الضجة؟ والأهم هو إلى متى تستمر هذه الحال من الشلل ومن المسؤول عن المبادرة لتحريك هذه المياه الآسنة؟ -
[email protected]
أضف تعليق