في الذكرى الحادية عشرة لرحيل الرئيس "ياسر عرفات"، أحاول تجاوز عشر سنوات مرت لأكتب عنه وكأنها الذكرى الأولى بعد الرحيل. سأرى كأننا: لم نخطط لما آلت اليه الأمور من بعده، كأننا زوبعة من ضجيج وعاصفة من غبار، مراوحة في المكان والزمان، وعالقون في ذات الخريف الذي رحل به أبو عمار.
هذا الخريف الذي يبدو مختلفا لانه لم يأت بعد صيف، سياسياً ومناخياً، خريف داهمنا بعد فترة سُميت على وجه السرعة ربيعاً عربياً! أسقطت ما أورق قبل أن يُزهر، فلم يعد هناك ما يسمى رحلة الشتاء والصيف؛ بين اليمن السعيد والشام العتيقة، طريق يعيدنا إلى زمن رحيل القادة، من عبد الناصر وحتى عرفات.
الخلطة السحرية لابي عمار، يمتزج فيها التواضع بالحزم، قبول الجماهير بسبب ما يبدو عليه من عفوية القائد الذي لا يتأخر أبداً، يصدر البيان من الميدان كما في المحافل الدولية والعربية. تَفَرُّد واستفراد بطريقة عرفاتية خاصة؛ منكهة بطعم الوحدة.
في زمنه لم يكن يطول به الخلاف والانقسام. اجتزنا مع أبي عمار مراحل محطات كثيرة أو اجتازها بنا ومعنا، محطات فارقة نحتاج الى تذكرها ونحن نعيش بعض ظروفها، نستلهم دروسها لنكتب عنها كلما كتبنا عنه. فلا انفصام بينه وبين التاريخ الفلسطيني.
تلك المحطات الزمنية، عمراً وكفاحاً، كانت جزءاً فارقاً من حياته المشكلة للذاكرة الجمعية المتجددة، كيف كانت وكيف يجب أن تكون، في الحصار وفي الميادين وفي المؤتمرات والمنابر العربية والدولية، وفي المقدمة منها الساحات والاجتماعات الفلسطينية وتحديدا اجتماعات القيادة ودورات المجالس الوطنية، المفتوحة بخط معبَّد موصول مع الجماهير.
من الصعب أن تغيب عنا في هذه الذكرى صور جمعت أبا عمار مع القادة العرب، بومدين وعبد الناصر، ولا تغيب يوميات وسنوات الزمن المليء عزةً وعنفواناً، رأيناه في تشابك الأيادي للقادة الملهمين من أصحاب البصمات الفارقة، في اللحظات السياسية المهمة وفي القواعد ومع الفدائيين، كما نتذكر حميمية ودفء الوحدة وصولاً الى صور ومواقف أيام الحصار على أنغام الهتافات العالية: "على القدس رايحين شهداء بالملايين". وبينما نحن نعيش الذكرى وتكرار الظروف نفتقد لقرار حازم من القائد والقيادة فتصبح الذكرى عنوانا لمرحلة نتمنى أن تعود، بدروسها العميقة التي يلتقطها القائد ويكررها للجماهير لتكون عنوان المرحلة وهتافها الشعبي وشعاراتها.
أجد نفسي في الكتابة عن الذكرى مشدودة إلى الاحترام والانحياز الذي كان يبديه القائد الراحل في لقاءاته وحواراته مع المرأة الفلسطينية، كاتحاد المرأة والمؤسسات والناشطات النسويات كما مع الفدائيات والمناضلات، أو في استقباله وزيارته لأمهات وأخوات وزوجات الشهداء والجرحى والأسرى.
تلك المرأة، كان يردد كثيراً بانها "تاج رؤوسنا المرفوعة"، احتلت مكانة متقدمة في مواقف أبي عمار السياسية والاجتماعية رغم انها لم تكن كذلك في حياته الشخصية، فعميقة هي المعاني التي كرسها الراحل تقليدا وهو يقبِّل رأس هذه ويد تلك بشهامة الرجال؛ متقنا لأدب الإصغاء وطول البال الذي لم يكن يمارسه عندما كان يتعلق الأمر بالرجال، فكان يبدي تقبلا وتأييدا لمعظم ما تطلبه المرأة الفلسطينية من مواقف ومواقع ومكانة ومشاركة.
ولعلني في ذكرى الشهيد؛ أتساءل عن الرمزية التراثية للكوفية والتي اصبح لها رمزية كفاحية وهوية فلسطينية لدى أحرار العالم، ولدى صبايا وشبان وعموم الفلسطينيين، ترى هل اكتسبت هذه الرمزية قبل أن يرتديها بطريقته المعهودة ليس في الميدان فحسب؛ بل حتى في لقاءاته الدولية والدبلوماسية.. في ذكراه المتجددة ليس لنا إلا أن نثق كما كان واثقاً، بأن أشبال وزهرات فلسطين المعتمرين الكوفية، على الرؤوس والأكتاف، سيرفعون صور "أبي عمار" على جدران وأسوار القدس وكنائسها ومساجدها، تزامنا مع رفع الأعلام في يوم النصر الذي رآه على مرمى حجر. ونبوءته عن يوم قريب يرفع فيه شبل أو زهرة من فلسطين العلم الفلسطيني فوق أسوار وكنائس ومساجد القدس، شاء من شاء وأبى من أبى..
[email protected]
أضف تعليق