تعجَ البلدات والمدن اليهودية في إسرائيل بمخططات الاستحداث او التجدد العمرانيّ التي تُستبدل فيها البيوت السكنية القديمة بعمارات أكبر وأحدث. وبموجب هذه المخططات يُهدم العقار الموجود، وهو في الغالب عقار قديم بُني قبل سنوات عديدة، ويُبنى من جديد حسب مخطّط عمرانيّ يؤمّن أضعاف عدد الوحدات السكنية الموجودة. ومن بين هذه المخططات التي تُحرّك باستمرار وفي كل بلدة يهودية تقريبًا اذكر مشاريع تدعيم المباني القديمة حسب المخطط القطري رقم 38، والمعروفة لدى الجمهور بمشاريع "تاما 38". ونجد في هذه المشاريع أنّ المقاول المبادر يقوم بدعم المبنى القديم وإعادة تأهيله ليصمد أمام الهزات الارضية، وبالمقابل يكون له الحق بإضافة وحدات سكنية إلى المبنى على قدر ما تسمح به مؤسسات التنظيم والبناء، كما أنّ بيع الوحدات السكنية الجديدة يقوم بكلفة تدعيم المبنى، كما يعود على منفذ المشروع بأرباح طائلة. أشير هنا أيضًا الى مشاريع "الاخلاء والإسكان" والتي من خلالها يتم هدم منطقة سكنية معينة، ويتم استبدالها بمبان سكنية جديدة تحتوي على كمية كبيرة من الوحدات السكنية. وتأتي هذه المخططات من الناحية التظريّة لتكسر النظرية القائلة: إنّ الأرض مورد "إذا استُعمل انتهى"! إنّ هذه المخططات تعيد استغلال الأرض من جديد، مثلما يتمّ إعادة تدوير المعادن ان صحّ التشبيه. وإنّ أنماط التحديث العمراني قد نتجت عن الحاجة الى تأمين العدد الأكبر والممكن من الوحدات السكنية، وعن الحاجة أيضًا الى تأمين حياة راقية تشتمل على كافة البنى التحتية، والمناطق العامة الضرورية للحياة، وهو ما تفتقر إليه الاحياء والبيوت القديمة، والتي بنيت قبل عشرات السنين، وفي ظروف تختلف كثيرا عن ظروف حياتنا اليوم.
أرى أنّنا، وفي حين تعجّ البلدات اليهودية بمثل هذه المخططات كما ذكرت سابقا، نكاد لا نذكر مخططًا واحدًا من هذا القبيل في بلداتنا العربية. أسأل : لماذا يحصل هذا؟ هل يتعلق الامر بثقافة البناء، والسكن لدى المجتمع العربي؟ أهي مخطّطات مختلفة عن ثقافة البناء والسكن لدى المجتمع اليهودي إلى درجة تجد مخططات التحديث العمراني تملأ البلدات اليهودية ، لكنّها معدومة تقريبا في بلداتنا العربية؟ أتكون القضية سياسية هذه المرة أيضًا أم أنها قضية مهنيّة محض تتعلق بعوامل ميدانية، تؤدي الى نتائج مختلفة بين المجتمع العربي واليهودي؟
وعليه، رأيت ان أطرح بايجاز في مقالتي هذه، وفي مقالاتي القادمة عن مشاريع الاستحداث العمراني، بعضَ النقاط التي من شأنها أن تمهد للنقاش في هذه المسألة. وفي الحقيقة، يمكننا النظر الى هذه المسألة كمسألة ثقافية، وأن ندّعي من هذا المنظار أنّ مخططات التحديث العمراني المذكورة لا تتناسب هي وثقافة البناء والسكن لدى المجتمع العربي! أضرب مثلاً لذلك، أنّ المخططات المذكورة تنتهي بعمارات سكنية تحتوي كل واحدة منها على عشرات الوحدات السكنية التي تسكنها عائلات مختلفة، من أصول مختلفة ومن أعمار مختلفة، وتكون العمارة "بيتًا سكنيًّا مشتركًا" (وباللغة العبرية "בית משותף") له نظامه الداخليّ من حيث استغلال الملك العام في العمارة، ونفقات صيانة العمارة والخدمات العامة فيها، وتنظيم مواقف المركبات حسب كل شقة، وغيرها من الأمور التي تنظّم حياة سكان العمارة. وإنّنا من الناحية العمليّة، قلما نجد عمارات سكنية على هذا النمط في بلداتنا العربية، بل إن النمط السكنيّ المألوف والسائد في بلداتنا العربية هو بيت لكل عائلة على كل قسيمة أرض واحدة، أو مبنًى من عدة طوابق (يتكوّن من ستة طوابق في اغلب الحالات) لأفراد الاسرة ذاتها، ولا تسكنه عائلات غريبة.
ومن هنا فان فكرة تطبيق مخططات التحديث العمراني في البلدات العربية، وهو ما يعني أنّ تغيير نمط السكن، والحياة تغييرا جذريّا ليس بالأمر السهل. وإنّ الصعوبة ذاتها نجدها في تقبّل عدد كبير من المواطنين العرب للمخططات الهيكلية الحديثة لبلداتنا العربية التي تحثّ على البناء المتزاحم المتعدد الطبقات، أو المكون من مجموعة وحدات سكنية على قسيمة البناء الواحدة. ومع ذلك كلّه ، وجب أن أنوّه بأنّ هناك عددًا من العمارات السكنية، هي الآن في طور التخطيط أو البناء في عدد من البلدات العربية كالناصرة وسخنين وغيرها، وستكون "بيوتا مشتركة" كما هو الحال في البلدات اليهودية، وستسوّق الشقق في هذه العمارات حصرًا للازواج الشابة العرب من أبناء مجتمعنا. وتذهب الدراسات المتوفرة في أيدينا إلى أن هذه الشريحة، أي شريحة الجيل الشاب في مجتمعنا العربي، لا تجد في السكن في مثل هذه العمارات مشكلة كبيرة، بل على عكس ذلك، تجد أنّ مستوى العيش فيها هو أفضل من مستوى العيش على نمط البناء التقليدي. ومع ذلك كلّه، علينا أن نعي أيضًا أنّ كلفة هذه الشقق باهظة جدًا نسبيًّا ! وعليه، لا يستطيع كل زوج من الأزواج الشّابّة شراء شقة في هذه العمارات، إذ يبلغ ثمن الشقة الواحدة بمساحة 120 مترا مربعا تقريبًا نحو مليون شاقل أو أكثر! وهذا الامر وحده هو الذي يدفع عددًا كبيرًا من الأزواج الشابة العرب إلى أن يفضّلوا البناء الذاتيّ على أراضيهم الخاصة، حين يجدون أن كلفة هذا البناء أرخص بمئات آلاف الشواقل من ثمن شقة جديدة في عمارة سكنية من النمط المذكور، وأنهم في ذلك يستطيعون أن يخطّطوا بيوتهم حسبما تقتضي حاجاتهم ورغباتهم. وهكذا تجد نمط البناء التقليديّ يتعزّز مجددًا في البلدات العربية، وكأننا أمام حلقة مفرغة. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه أمام هذا المشهد هو أيكون البناء التقليدي في البلدات العربية هو وليد ثقافة يتمسك بها مجتمع معين، وفي هذه الحالة أعني المجتمع العربي في البلاد، أم أنه نتاج ظروف وعوامل تخطيطية، أو اقتصاديّة او إداريّة، أو كل هذه العوامل مجتمعة؟ وهل من الضروري حقًّا أن نعمل على تغيير نمط البناء السائد في البلدات العربية؟ ما فائدة ذلك وما الضرر؟ ولماذا علينا أصلا أن نفكّر في تحريك مخططات الاستحداث العمراني في بلداتنا العربية؟ هذه الأسئلة واسئلة أخرى علينا ان نناقشها بكل مهنيّة، ووضوح حتى لو أدّى النقاش إلى شيء من النقد الذاتي البنّاء، على رجاء أن تبعث افكاري في هذه المقالة وفي المقالات القادمة نقاشًا بنّاءً حول هذا الموضوع الهام.
*يعمل الكاتب أيضًا باحثا للقب الدكتوراة في القانون في جامعة تل ابيب.
** المقال واحد من سلسلة مقالات للكاتب عن مخططات التحديث العمراني.
[email protected]
أضف تعليق