الحقيقة دائماً يجب أن تسمع من أهلها، وعدم الاكتفاء بسماع الأخبار، هناك الكثير يجب أن تكتشفه من الآخرين ممن يتواجدون بالميدان بعيداً عن الكاميرات، وهذا ما أردته من لقائي مع الناشطة الميدانية المقدسية التي تعشق هذه المدينة كما يعشقها أي مقدسي ترعرع بشوارعها وأزقتها وأدى الصلاة بكنائسها ومساجدها، أضع هنا ما قالته المقدسية في اطار تفكيري نقدي لإنعاسك الواقع، وربما الواقع الذي قالته المقدسية لن يعجب البعض أو الأكثرية .

منذ انطلاق «الهبة الشعبية» والسؤال الأكثر تداولا في الشارع الفلسطيني هو: اين الفصائل من الهبة الشعبية؟

«الشباب يقومون بتنفيذ العمليات والفصائل تبارك» على عكس ما درجت عليه العادة عندما كانت الفصائل تنفذ عمليات وتسارع للإعلان عن «ابنائها» المنفذين لها. لكن هذا السؤال في القدس لا يطرح بنفس الحدة ربما لأنه قد حسم منذ فترة حيث انحسرت ثقة الشارع المقدسي بالفصائل والقيادة من خلال عملية تراكمية ومتواصلة من متابعة ردود فعل هذه الفصائل والقيادة على مجمل الإجراءات الإسرائيلية القمعية في المدينة (مثال هدم المنازل، الغرامات، النشاطات الاستيطانية الشرسة التي تحيط بالمدينة كحلقة تطبق عليها، مصادرة الأراضي، حمى الجمعيات الاستيطانية والاستيلاء على المناطق المحيطة بالبلدة القديمة على غرار ما يسمى مدينة داوود في سلوان، العقوبات المشددة على كل من يقاوم هذه الممارسات الإسرائيلية، الزج بالشباب والأطفال المقدسيين في السجون، إغلاق المدينة وعزلها عن محيطها الطبيعي في الضفة الغربية، بالإضافة إلى محاولات اختراق وإسقاط الشباب المقدسي في فخي المخدرات والعمل في القدس الغربية بشكل زاد من نسب التسرب المدرسي).
في القدس الشعور السائد بين الشباب والمجتمع بشكل عام هو شعو «باليتم» حسب ما يردده الكثير من المقدسيين وشعور بالتخلي عنهم والتقصير بحقهم. ولعل ما جرى بعد جريمة حرق وقتل محمد ابو خضير العام الماضي وما ترافق معها من «هبة شعبية مصغرة» في المدينة كان خير دليل على مدى ضعف أداء الفصائل الفلسطينية في الميدان بل ومحاولات ولاحقا النجاح في اخماد لهيب تلك الهبة تحت ضغوط اسرائيلية ربما على القيادة الفلسطينية. وقد تبع تلك الهبة فرض عقوبات وغرامات باهظة واحكام بالسجن على من شارك فيها.

والمتابع للمبادرات ومجموعات الحراك الشبابي المقدسي منذ عدة سنوات يرى انها نابعة بالأساس من مبادرات فردية او جماعية لمجموعة من الشباب تفاعلت مع احداث معينة بطرق مختلفة (مثال شهيد الهبة الشعبية الحالية بهاء عليان ومبادرته لإطلاق اطول سلسلة قراءة حول اسوار القدس وقد كان اهم ما ورد في وصيته التي صاغها على غرار وصية اي شهيد تقول برفض تبني اي من الفصائل للعملية التي ينفذها الشهيد .. وهو وإن دل على شيء فإنما يدل على مدى فقدان الثقة واليأس من الفصائل بالرغم من تبني الجبهة الشعبية لاحقا للعملية ونعيه كأحد عناصرها).

ولا بد من الإشارة هنا إلى ان ذلك لا يعني بالضرورة عدم تواجد او حضور للفصائل الفلسطينية في القدس؛ ولكن ذلك يتركز بشكل اساسي في الفصيلين الرئيسيين فتح وحماس حيث انحسر دور فصائل اليسار بشكل كبير في القدس وفي فلسطين على العموم بشكل واضح مقارنة مثلا بما كان عليه الوضع خلال الانتفاضة الأولى. (بعض التعليقات الساخرة على بعض الفصائل انها مع انصارها في القدس لا تكمل حمولة حافلة باص واحدة!!!) وقد يعود ذلك إلى حقيقة هجرة معظم المؤسسات الأهلية التابعة لفصائل اليسار من القدس والتي كانت في مرحلة ما غطاء للعمل السياسي والتنظيم لحشد الشباب وتأطيرهم.

ومن الواضح انه حتى كوادر حركة فتح في القدس وانصارها قد تراجعت ثقتها بالحركة وقياداتها في الضفة الغربية، فترى مجموعات ناشطة على التواصل الاجتماعي من قبيل «القدس اولا» ، وقد عبرت هذه الكوادر بشكل دائم عن إحباطها من تفاعل الحركة بشكل عام مع قضايا القدس مع الأخذ بعين الإعتبار بعض اللقاءات مع القيادة عند منعطفات معينة وعندما تشتد ازمات محددة. إلا ان حركة فتح مثلا تنشط في الفعاليات الشبابية وتشارك فيها قبل الهبة الشعبية الحالية وحاليا ولو انها لا تعلن عن ذلك صراحة. ولكنها ايضا ناشطة فيما يتعلق بالمرابطة في المسجد الأقصى والدفاع عنه ولكنها تظل فاقدة للثقة إلى حد كبير نتيجة لربطها في عيون الشباب المقدسي والمجتمع بمواقف القيادة الفلسطينية التي يشعر الكثيرون كما سبق ذكره بأنها تخلت تماما عن القدس سواء من حيث العنوان والمرجعية الرسمية خاصة بعد إغلاق بيت الشرق او انعدام الموازنات لدعم المدينة وتطويرها وتعدد المتحدثين باسم الحركة في القدس وعدم كفاية وعدم فاعلية محافظة ووزارة شؤون القدس في قضايا المدينة، بشكل دفع البعض للتفكير بمبادرات فردية لتشكيل أطر مرجعية تحمل قضايا وهموم القدس على عاتقها وتسعى لإيجاد الحلول لها. أما بالنسبة لحركة حماس فهي ليست ظاهرة بشكل واضح في الشارع المقدسي الشبابي وربما تعمل بسرية اكبر وبشكل اساسي في الدفاع عن المسجد الأقصى وتنشط في الضواحي من خلال المساجد.

بالمقابل هناك تنامي للشعور الوطني بين الشباب الفلسطيني منذ فترة وتحديدا منذ عملية حرق وقتل محمد ابو خضير وشعور بأن الاستقرار النسبي الظاهري والتفاعل مع المجتمع الإسرائيلي سواء من خلال المراكز التجارية أو العمل هي نوع من الوهم والصورة غير الحقيقية وإنهم مستهدفون في أي لحظة فقط لأنهم فلسطينيون عرب. وقد تنامى ذلك بعد الاعتداءات المتكررة من قبل اسرائيل على المسجد الأقصى ومحاولات تقسيمه وهي التي كانت مثل القنبلة الموقوتة التي كانت بانتظار شرارة التفجير. انخرط الشباب بشكل اساسي في عملية الدفاع عن المسجد الأقصى وذلك منذ اكثر من سنة حيث أدى منع اسرائيل للأشخاص تحت سن الأربعين من الصلاة في المسجد إلى ردة فعل عكسية تمثلت في رغبة متزايدة لدى الشباب المقدسي في الذهاب للمسجد والصلاة.

مجمل الحديث، ان دور الفصائل وقدرتها على قيادة الشباب في القدس قد انحسر إلى حد انعدامه ليس فقط خلال هذه الفترة ولكن نتيجة لعملية تراكمية من الخذلان والفشل في حشد الشباب وتأطيرهم وتقديم البدائل العملية لهم في توظيف طاقاتهم بالشكل الصحيح. وربما من المهم الإشارة إلى قلة المؤسسات والنوادي وأماكن التقاء الشباب في القدس والتي كانت في السابق البيئة الحاضنة الرئيسية للعمل والتنظير السياسي على الأقل خلال الانتفاضة الأولى. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]