لا أحد يستطيع استشراف حجم وآفاق تطور الحراك الحالي الذي تشهده القدس وباقي المناطق المحتلة عام 67 ضد نظام الاستعمار الكولونيالي. ولا نستطيع أن نؤكد أننا أمام انتفاضة عارمة وشاملة ومستمرة ذلك أن قيادة السلطة الفلسطينية لم تحسم أمرها، ولم تستعد لمواجهة الاحتلال ولم تكن يومًا مستعدة أو جاهزة، إذ أن بنيتها وذهنيتها وتصوراتها ليست مناسبة لذلك. والبدائل التنظيمية الموحدة لم تظهر بعد وهناك عوائق موضوعية أخرى. كما لا نستطيع أن نجزم أن هذا التطور، لن يتدرج إلى انتفاضة أو إلى حالة كفاحية جديدة ومتجددة.
الأمر الواضح للعيان هو أن ظرفاً جديداً يتشكل، وأن موجات المواجهة المتقطعة تغذي بعضها، وقد يولّد هذا التطور دينامية تقود إلى بلورة قيادات ميدانية. وفي كل الأحوال ستقود إلى إعادة خلق وعي وطني جديد جامع على أنقاض الوعي المزيف الذي أنتجته اتفاقيات أوسلو.. حتى لو لم يتطور الأمر في المدى القريب إلى انتفاضة.
نحن أمام مزاج عام يتغير بصورة متسارعة من حالة السلبية (النسبية) إلى التهيؤ والاستعداد لدخول مرحلة من المواجهة الطويلة مع النظام الكولونيالي الصهيوني. ليس الأمر مفاجئاً. لا يستطيع هذا الكيان الوحشي احتجاز وحصار ملايين الفلسطينيين في معازل بلا أمل وبلا أفق إلى ما لا نهاية. إسرائيل وفرت كل المقدمات والأسباب لدفع الشعب الفلسطيني إلى تجديد مسيرة المقاومة. وهي اليوم، وعبر رأس الهرم تمنح الشرعية لكل مستوطن صهيوني باستباحة الدم العربي.
لكن يبقى السؤال، أو الأسئلة الملحة التالية، المطلوب الإجابة عليها عاجلاً، والتي ربما تجري حالياً جهود ومبادرات للإجابة عليها في الميدان هي:
كيف، نحن الفلسطينيين، نستقبل هذه المرحلة الآخذة بالتشكل. كيف نضمن إدارة صحيحة ومسؤولة وجريئة للنضال ضد الاحتلال. وكيف تُمرحل (من مرحلة) مسيرة الكفاح الشعبي، وتضمن تدرجها واستمراريتها ومراعاة قدرات الناس على تحمل تبعاتها. وكيف نلجم التوحش الإسرائيلي، ونردع ممارسته للقتل الجماعي. تستطيع الفصائل والقوى السياسية التأثير في سيرورة وشكل المواجهات والحراك، عبر اختيار أساليب النضال، وعبر توسيعه وإشراك الجماهير العريضة، في المسيرات والمظاهرات وعبر التقيد بقواعد نتفق عليها كيف نتيح لطلائع الجيل الجديد بأخذ مواقعها الأمامية في النضال التحرري، ونوفر لها التوجيه المطلوب، ونكون معها وإلى جانبها. وكيف تدفع إلى القطع نهائياً مع إرث أوسلو. طبعاً هذا الأمر لن يتحقق عبر مواصلة ممارسة لعبة الشتم ضد السلطة العاجزة وغير الراغبة حتى بحسم الأمر، بل عبر فهم تعقيدات الواقع، وواقع البنى الفلسطينية الرسمية، وبناءً عليه تطرح البدائل.
ربما يتفق الكثيرون على الأمور التالية والتي بدونها من الصعب خلق زخم كفاحي:
أولاً: تحديد شعار المرحلة: وهو التحرر الوطني.
إن الشعب الفلسطيني يخوض معركة تحرر وطني من مستعمر كولونيالي عنصري ولا يخوض صراعاً على حدود. ليس الموضوع دولة. بل حق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني بكافة تجمعاته: إزالة الاحتلال والاستيطان في الأراضي المحتلة عام 67، حق العودة، وتحقيق المساواة الكاملة للفلسطينيين داخل الخط الأخضر عبر تفكيك النظام الصهيوني العنصري. من المهم جدًا أن ينجح الفلسطينيون أن يعيدوا لأنفسهم وللعالم العربي مكانة القضية الفلسطينية، ومكانة النضال التحرري.
إن الفلسطينيين هم الشعب العربي الوحيد الباقي الذي يشتبك مع الصهيونية ومع مشروعها.
ثانياً: تشكيل قيادة وطنية موحدة عليا، وقيادات ميدانية موحدة مدركة لحجم المسؤولية التاريخية، وقادرة على تجاوز الحساسيات والصراعات الفئوية المتراكمة.
ثالثاً: خلق اجماع وطني على نموذج المقاومة الشعبية، المستند إلى تجربة الانتفاضة الأولى الذي أظهر فيها شعبنا البطل تفوقاً أخلاقياً على المستعمر الصهيوني، فضلاً عن الشجاعة المعهودة. لا يجوز العودة إلى أخطاء الانتفاضة الثانية، وإن كان شعبنا قدّم فيها تضحيات هائلة، وكبدت المحتل خسائر كبيرة. لا يجوز أن يكون كثرة الشهداء مقياس النصر، بل تكبيل أيدي العدّو ولجمها عن القتل.. وحصاره محلياً وعالمياً.. وصولاً إلى قبوله مبدأ العدالة. يجب الانتباه إلى أن العالم العربي مشغول بأوضاعه المأساوية الداخلية.
رابعاً: توفير الآليات المناسبة للتنسيق بين كافة التجمعات الفلسطينية، في فلسطين التاريخية، والشتات، والمهجر. وليشعر كل تجمع أنه شريك في النضال والهدف.
خامساً: تحقيق تكامل بين أشكال المقاومة: أشكال العمل الشعبي والسياسي والدبلوماسي والثقافي، وإعطاء اهتمام كبير للحركة المقاطعة العالمية.
سادساً: الإستعانة بالقوى الإسرائيلية واليهودية العالمية المناهضة للاحتلال والصهيونية والكولونيالية في الحملة الإعلامية لصالح حق الشعب الفلسطيني، ولصالح الفكرة الأخلاقية- الإنسانية الشاملة والمساواة بين البشر.
سابعاً: إيجاد الآلية المناسبة للتنسيق مع القوى الوطنية الفلسطينية داخل "منطقة 48 (الجليل والمثلث والنقب)"، بما يتسق مع حجم الطاقة الكامنة التي يحملها هذا الجزء من شعبنا، وما يلائم خصوصية واقعه. يستطيع هذا الجزء من الشعب الفلسطيني لعب دور فاعل ومؤثر في النضال الشعبي، وفي الحملات الإعلامية والأيدلوجية ضد نظام الأبارتهايد الإسرائيلي.
ثامناً: بناء الأطر والمؤسسات التي تتحمل التبعيات المادية، وتوفير أسباب الصمود والدعم للناس.
******************************
نحن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر بحاجة إلى تجاوز مرحلة التأكيد على أننا جزء من شعب فلسطين، إلى مرحلة جديدة نمارس من خلالها واجبنا الوطني في النضال الوطني والإنساني لدحر نظام كولونيالي وفصل عنصري، وذلك عبر نضال شعبي- مدني متطور. الجديد الذي يجب أن ندخله إلى وعينا وممارسته، هو توجيه نضالنا ضد مجمل النظام الصهيوني القائم على الاستعمار والفصل العنصري. هذا لا يعني القفز بصورة تعسفية عن خصوصية وضعنا كفلسطينيين يحملون المواطنة الإسرائيلية، بل يعني البحث وإيجاد وتطوير الشعار المطلوب في هذه المرحلة، التي يُعيد فيها هذا النظام الكولونيالي انتاج نفسه بصورة فاضحة ومكشوفة ويكشف عن طبيعته بدون رتوش. هذا النظام العنصري، الآخذ بالتغول، يُضيّق بصورة متسارعة إمكانيات المواطنين العرب الفلسطينيين للدفاع عن وجودهم وتحقيق حقوقهم اليومية والقومية ويعمل بلا كلل على الحيلولة دون تحقيقهم انجازات فعلية حتى على المستوى اليومي. ما نحتاجه هو تطوير مستوى التنسيق بين القوى السياسية، وتعزيز دور الحراك الشبابي وخلق التكامل بين الجهتين في سياق استراتيجية واحدة وموحدة. وفي هذا السياق نطرح شعارات واقعية وممكن تحقيقها مثل: وقف مصادرة الأراضي، ومخططات التهويد وحصار القرى العربية، وقف مخططات الهدم، ومخططات هدم الهوية الوطنية، وقف الاعتداءات على المواطنين العرب، والتحريض الدموي على أحزابهم وقياداتهم وعلى وجودهم. هذه المطالب والحقوق تندرج ضمن النضال الوطني العام.
إنها المرحلة التي تفرض علينا أن ننطق بصوت واحد، ونحارب بسيف واحد، (سيف النضال الشعبي- المدني)، ونُجمع على هدف واحد.. التحرر من الاستعمار والعنصرية. وتحقيق العيش المشترك القائم على العدل والإنصاف.
نضال يحتاج إلى تخطيط عقلاني ونفس طويل وصبر شديد وقيادة حركة تحرر وطني حقيقية وصاحبة مشروع وطني ديمقراطي تحرري.
[email protected]
أضف تعليق