للمسرح الفلسطيني المحلي مكانة خاصة مهما تقلبت الأوضاع السياسية والاجتماعية, لأن التقارب بين الفنان المشارك في العمل وبين المتفرج هو كبير والانفعال أو التفاعل صداه أكبر بسبب هذا التقارب داخل مجتمعنا الفلسطيني الصغير. لن أتطرق الى جميع مركبات مسرحية "كل حرب وأنتم بخير" لعدة أسباب أولها وأهمها الزخم المسرحي من ناحيه إخراج, تمثيل وطاقم مسرحي, فقد كان "تزاوج" وإنسجام عميق بين منير بكري, سناء لهب وباقي الطاقم, مما لا يدع المجال لكتابة مقاله قصيره, يمكنها أن تشمل هذا الزخم وتحوي مركبات العمل كلها من ديكور, إضاءه, حالات دراميه, "جُمَل مسرحية" كوميديه, موسيقى وحتى التنفيذ الإنتاجي.

لهذا سأكتب في هذه المقاله عن العمل بإيجاز, محاولاً الوقوف عند بعض محطاته الفنيه الكثيره وسأبدأ بالحديث عن اسم المسرحية والنص "كل حرب وأنتم بخير" لكاتبته منال خميس من غزه, ثم أنتقل الى بعض مكونات المسرحية الباقية بشكل مقتضب وبسيط وليس بالضرورة التطرق للجوانب المهنية المسرحية والأكاديمية.

المركبات المسرحية:
لا شك أن "كل حرب وأنتم بخير" هو اسم يتناقض مع الواقع, فالكلمات لا تتمازج مع بعضها لأن الحرب لا تترك للخير فسحه كبيره !!. فنقولها في المناسبات السعيدة حسب العادة, لكن هنا جاء هذا الإختيار لاسم تهكمي لاذع يحمل معه من الذكاء الأدبي شيئاً ومن الشجاعة السياسية أشياء.. لن أسهب حول الرأي السياسي في النص كي لا تضيع فكرة المقالة, لكن الحق يقال ان هذا النص فيه ما هو جديد سياسياً "حب الحياة" وتفضيلها على الموت, بعقل الكاتبة والمناضلة منال خميس ولسان امرأة من غزه فقدت كل شيء حتى عقلها.. من هنا يظهر لدينا مركبان أساسيان في النص "إمرأة" و "حياة" وبواسطتهما ندخل الى عمق نص المسرحية الذي وُضِعَ على المسرح كما يقول الفرنسيون "ميزانسينا"(أي وضع على المنصة).
في هذا العمل لاحظت أن ما وضع على المنصة من ناحية مركبات ماديه وملموسة كان قليل وأقصد.. ممثلة واحدة.. ديكور بالحد الأدنى.. إضاءة متواضعة.. موسيقى غربية بسيطة النغمات.. لكن من ناحية فنية إخراجية وفكرية إنتاجية وضع على المنصة الكثير, لذلك نتج تناقض بين الماده الملموسه القليلة وكثرة الأفكار الفنية النوعية والمميزة, مما يضع المسرحية في إطار الإنتاج المسرحي المتواضع وقليل المادة الملموسة على المنصة, لكنه كثير المواد الإنسانية الوجودية والحياتية.

الممثلة سناء لهب
المناجاة الذاتيه للممثلة سناء لهب قوية بتنقلها عبر الشخصيات التي تجول في ذهنها وأحاسيسها, دون أن يتعالى عليها ديكور بارز الملامح أو موسيقى تحمل موضوع معقد أو إضاءة تثقل عليها في حركتها وتعبيرها الدرامي وكان هذا من أجمل نتائج العمل, فالنص الذي قدمته لهب لم يكن ثقيلاً أو طويلاً, بل أخذ من الوقت والمكان ما تحتاج له المسرحية من ناحية درامية, وكانت لهب قد قسمته بشكل صحيح معنويا وجسديا, ونشاهد بالفعل أن سناء لهب تمتلك النص من ناحية حسية وفكرية وتتحكم به بشكل دقيق.. نظام كلامي وحركي بين التقطع والتواصل, مما جعل المونولوجات حادة ومؤثرة, أظهرت تعدد الشخصيات داخل شخصية رئيسية واحدة ووحيدة, هي المرأة الفلسطينية التي تبكي على إبنها, تحزن على زوجها, تصارع الظروف وتحارب "الذكورية الفلسطينية" في ظل الحرب, كي تمارس حريتها كمرأه في إستمرار الحياة, فيبرز رمزان مهمان الرمز الأول: "السياسة \ الوطن \ الرجل \ المجتمع الذكوري \ الموت \ العنف \ القسوة \ الحدة", والرمز الثاني: "الحياة \ الحرية \ المرأة \ المجتمع النسوي \ الذاكرة \ الحنان \ الحزن", بهما تنطلق لهب الى عمق الشخصية الرئيسية التي تحمل بداخلها كم هائل من الشخصيات, وتسير على محور زمني طوال المسرحية بين الرمز الأول والرمز الثاني صعوداً ونزولاً.. بالتناقض والصراعات التي ذكرتها, بين حزن وكوميديا مريرة, بين صراخ وهدوء.. حتى تصل الذروة حين تتذكر حبيببها وهي تجلس بجانب كومة الملابس الممزقة والملطخة بدماء أبناء غزة.

المخرج منير بكري
ليس بعيداً عن ذهن أي شخص عادي, أن المخرج هو عامل أساسي في المنتوج الفني النهائي, لذلك يظهر هنا العمل الفني المميز لمنير بكري أحد المخرجين الفلسطينيين الذين ينتمون الى المدرسة الحديثه, فلم يبخل بالكوميديا الممزوجة بالحزن الخانق ولم يتهاون مع المونودراما التي تحاكي الخيال, بل تَرَفٌعَ عن الدراما من أجل الدراما, كي يعطي للشخصية الرئيسية حقها وحريتها الكلامية والحركية, ويحافظ على مصداقية النص الذي جاء من إمرأه تنادي للحياة في أكثر الأماكن الفلسطينية تعقيداً "غزة".. النص الذي سقط على لسان إمرأه وقفت على منصة في الناصرة بعيدة عن غزة, منصة تخلو من القمع والإضطهاد بشكل عام, لكنها تواصلت مع كاتبة النص بشكل وجداني وحافظت على الرؤية الإخراجية لبكري, الذي صمم مسرحية ووقف عند أدق التفاصيل كأنه صدق أن المسرحية بالفعل تحدث في غزة وأن الحالة التي تعيشها الشخصية هي حقيقية بتداعياتها وتقمص الشخصيات من الذاكرة الفلسطينية الجماعية والذاكرة الإنسانية الشخصية.. أدخل بكري أيضاً نص مسرحيته بشكلها ومحتوياتها في "اللاوعي" أو ما يسميه بعض علماء النفس "العقل الباطني" للمتفرج وبهذه الخطوة الذكية يكون العمل أقرب الى إحساس المتلقي وفكره معاً, وتصل الفكرة مع الشعور و "اللا شعور" ببساطة.. مزيج مُتزن بين التفكير والإحساس وقَلَ ما نجده في مسرحنا خاصة في مسرحيات الشخص الواحد, وهنا اتضح لي أن هذه المسرحية لا تنحصر في مقال واحد أو حتى عدة مقالات لأن الزخم الإخراجي يحتاج الى تحليل وكتابة أكثر تفصيلاً.

المركبات الإنتاجية والطاقم:
يقول البعض "كان من الممكن أن يعدلوا هذا المشهد أو الموسيقى" ويقول اَخرون "كان من الأفضل لو حذف هذا المشهد أو تغير الديكور" وما الى ذلك من إقتراحات.. لكن برأيي لا مكان للملاحظات الكثيرة على أعمال فنية قد أنجزت لشخص لم يكن داخل مراحل العمل, ولم يخض تجربة "المجموعة" مع هذا الطاقم الخاص بالمسرحية, لكننا للأسف تعودنا النقد والإقتراحات لأن المسرح هو شيء ديناميكي ويحدث على منصة واقعية, ليس كلوحه رسمت ومن الصعب تعديلها أو كفيلم جاهز يصعب إعادته الى غرفة المونتاج.. فلذلك الحديث عن المركبات الإنتاجية وباقي الطاقم من وراء كواليس المسرحية أو أي عمل فني اَخر من المستحسن أن يتم بالموجود أو المنتوج النهائي.
وهنا أعود الى بداية المقال فمن الواضح أنه لا شيء داخل المسرحيه جاء صدفة أو لسبب تقني معين, بل رأيت أن الكثير من الأمور كانت بقَدر.. وبدأت بمنصة مظلمة على خلفية موسيقية لنغمات غير معقده وسلسه, فهذا ما يميز الموسيقي معين دانيال الذي ينتمي الى الجيل "المجدد" في الموسيقى, أنا بالطبع أعرف عمله عن قرب وعملت معه بعض الوقت عندما كنا في "المدرسة العربية للسينما" في الناصرة, دانيال له أسلوب ولديه فكر متين من ناحية موسيقية, ناضجاً وليس صارخاً أو مضجرا, فلا يمل الشخص من "الرتابه الرقيقه" التي تميز هذه المدرسة الموسيقية, فهي تتغير حسب الحالات الإنسانيه وتبقى الموسيقى في مكان راقٍ مع المشهد الدرامي وتحاوره بشكل جميل, مما يتماشى مع الحد الأدنى بالمادية والزخم.. بالحس والمواد الإنسانية. وإستمر نظري بالبحث عن ما جعلني اشعر بالدفئ والمتعه في هذه المسرحية, رغم صعوبة الموضوع وحدته تجد أنك أمام ديكور بسيط جداً لكنه يعطي إحساس بالأمان داخل المنصة, فلا تريد أن تخرج من بين أحبال الغسيل ويبقى النظر معلقاً هناك, هذا الإنجاز المميز الإضافي في المسرحية والتي قامت به المصممة نردين سروجي التي أعرف أسلوب عملها عن قرب فهي من الفتيات البارزات في المشهد الثقافي المحلي مع موقف نسوي يظهر في وضع الديكور الخاص بالشخصية والحالة, حيث أنها تعمل بشكل مستقل دون ترتيب ديكور على أفكار مسرحية معينه فقط, لكنها دمجت من خلال هذا العمل بين أسلوبها الشخصي الذي يهتم بالعمل بمواد بسيطه وليست مجسمات ضخمه أو ديكور يصعب التنقل به أو داخله, ويكون بسيطاً كي لا يسترق أنظار المتفرج "يبهره" كما في بعض إنتاجاتنا المحلية, فتتبعثر الأنظار الى أماكن أخرى داخل المنصة, أو تبتعد عن "مكان الحدث" المركزي, وما فعلته سروجي بالتأكيد يدعم العمل الدرامي الإخراجي والتمثيلي, ولا يؤثر عليه سلبياً أو يعيق التقدم بالأحداث والنص المحكي.
"كل حرب وأنتم بخير" هو عمل مسرحي يستحق أكثر من مقال كي يستطيع الكاتب أن يلج في عمق العمل الفني بجميع مركباته, لكن مهما كان العمل الفني كبيراً أو صغيراً ضعيفاً أو قوياً, فهناك جمل ومشاهد تبقى عالقة في ذهن المتلقي, ونص منال خميس قوي لا شك, لكن الميزنسينا التي وضعها بكري مع طاقم مسرح فرينج الناصرة, هي التي جسدت كلمات النص وأظهرت زخمها من ناحية مسرحية ومرئية, فمنحتها القوة لتقتحم الظلام في قاعة المسرح وتحاور بحنكه حاسة النظر وحاسة السمع عند الجمهور.

*عنان بركات – سينمائي وكاتب فلسطيني
[email protected] 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]