لعلّ 14 تموز 2015 هو اليوم الأكثر سواداً في تاريخ «إسرائيل» المعاصر. لعله كذلك الأكثر سواداً في تاريخ بنيامين نتنياهو. ذلك أنّ إيران، عدو «إسرائيل» اللدود، أصبحت، برضى الحليفة الكبرى أميركا، دولةَ عتبةٍ نووية. كلّ ما فعله نتنياهو طوال سنوات ذهب أدراج الرياح. أحد أبرز معارضيه، زعيم حزب «يوجد مستقبل» يائير لبيد، قال إنّ السياسة التي اتبعها إزاء إيران باءت بالفشل الذريع، داعياً إياه إلى الاستقالة.
نتنياهو المحبط، شأن كلّ مواليه ومعارضيه، لن يستقيل. فهو يتدارس مع مستشاريه بدائل متعدّدة لمواجهة التحدّي الأكبر والأخطر في حياته السياسية، بدائل تتراوح بين الردّ والاحتواء والتكيّف. في هذا السياق تتبدّى ثلاثة مسارات:
المسار الأول عسكري. هو، في الواقع، المسار الأخير، بمعنى الأكثر استبعاداً كونه يتضمّن توجيه ضربة عسكرية صاعقة لمنشآت إيران النووية بقصد إنهائها وإنهاء اتفاق فيينا النووي معها. هذا مسار مسدود ولا جدوى منه إذ لا قدرة عسكرية لـِ»إسرائيل» على إنهاء قدرات إيران النووية والعسكرية بضربة واحدة صاعقة. ثم إن إقدامها على ذلك من دون التفاهم مع الولايات المتحدة ضرب من الجنون. فوق ذلك، هي غير قادرة بالتأكيد على احتمال تكلفة ردّ إيران المدمّر على فِعلتها الجنونية، إنْ فَعلتها.
المسار الثاني سياسي، قوامه تعبئة قوى «إسرائيل» ونفوذها في الولايات المتحدة والتعاون مع خصوم باراك أوباما الجمهوريين لإجهاض الاتفاق في الكونغرس. التحضيرات جارية على قدم وساق لسلوك هذا المسار. لكن نتنياهو لن يسارع هذه المرة للذهاب إلى واشنطن لمخاطبة أعضاء الكونغرس. هم سيأتون إليه ليخاطبهم. تقارير إعلامية «إسرائيلية» تتحدث عن مجيء بعثتين كبيرتين نحو 100 مشرِّع من مجلسيّ النواب والشيوخ يمثلون الديمقراطيين والجمهوريين لمقابلة نتنياهو خلال الأسبوعين المقبلين. نتنياهو يُتقن، عادةً، التحدث إلى المسؤولين الأميركيين وإقناعهم. وبعد أن يفرغ من إقناع هؤلاء سيشدّ الرحال إلى الولايات المتحدة ليعاود تحريض أعضاء الكونغرس على رفض الاتفاق النووي.
مع ذلك، تبدو حظوظ أوباما في الكونغرس أفضل من حظوظ نتنياهو. صحيح أن غالبية الأعضاء قد تصوّت ضدّ الاتفاق، لكن في وسع الرئيس الأميركي استخدام حق النقض «الفيتو» لتعطيل القرار المتخذ. ولا سبيل أمام الكونغرس لإعادة تفعيل قراره إلاّ بإعادة التصويت عليه للحصول على غالبية الثلثين، وهو أمر متعذر. في هذه الحال، سيتباكى نتنياهو أمام أعضاء الكونغرس مضخِّماً الأخطار الإيرانية التي تهدّد أمن «إسرائيل» بغية حملهم، كما إدارة أوباما، على تعويضه خسارته الكبيرة. كيف وأين؟ بمنحه، أولاً، مزيداً من الأسلحة والطائرات والصواريخ المتطورة أو بوعده، ثانياً، بإخراج سورية من محور المقاومة، أو بالاثنين معاً، إنْ استطاع الأميركيون إلى ذلك سبيلاً. أوباما تحسّب لضخامة التعويض الذي يريده نتنياهو فاستعجل إيفاد وزير دفاعه اشتون كارتر إليه لاستقصاء مطامعه الخيالية.
المسار الثالث استراتيجي، قوامه الاتجاه إلى بناء جبهة إقليمية ضدّ إيران من الدول العربية المتخوّفة من تعاظم قوتها ونفوذها. لكن صعوبات جمّة تكتنف هذا التوجّه، أبرزها تحرّج معظم هذه الدول من التحالف مع «إسرائيل» في ظلّ استمرار احتلالها للضفة الغربية.
لإزالة هذه العقبة الكأداء تتعدّد الآراء والاجتهادات. بعض المسؤولين والخبراء الصهاينة يقترح القيام بمجازفة محسوبة قوامها الموافقة على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح على خُمس مساحة فلسطين التاريخية وذلك لتذليل معارضة المتحرّجين من الاحتلال «الإسرائيلي». بعضهم الآخر يرفض هذا الاقتراح بدعوى أن الدولة الفلسطينية الجديدة ستقع، عاجلاً أو آجلاً، في قبضة «داعش» وأخواته الأمر الذي سيضع قلب «إسرائيل» في متناول أعدائها الجدد. وثمة مَن يعتقد بين المسؤولين والخبراء أن الجبهة العربية المعادية لـِ»إسرائيل» قد تفككت وما عادت فلسطين تشكّل في سياستها وممارستها قضية أو التزاماً وأنه يمكن، والحال هذه، تفادي مجازفة إقامة دولة فلسطينية مرشحة للوقوع في قبضة الإرهابيين. ويذهب بعضٌ من هؤلاء إلى أبعد من ذلك بقوله إنّ الأردن ومصر أصبحا مهدّدين بإرهاب «داعش»، بل يعانيان منه، الأمر الذي يحملهما على عدم المطالبة بإزالة الاحتلال «الإسرائيلي» للضفة الغربية كشرط للموافقة على إقامة تحالف مع «إسرائيل» ضدّ إيران.
إلى ذلك، فإنّ إغراء التفكّك والضعف العربي لا يتوقف عند التفكير في المشاريع السابقة الذكر بل يتخطاها إلى ما هو أبعد وأخطر. فمستشار الأمن القومي «الإسرائيلي» السابق الجنرال غيورا ايلاند اقترح، في إطار دراسة أعدّها لـِ»مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية» بعنوان «البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين»، إنشاء دولة فلسطينية مكوّنة من ثلاث مناطق: قطاع غزة، وقطاع من أراضي سيناء بين رفح والعريش وعلى امتداد الحدود الفلسطينية المصرية بمساحة تبلغ 740 كيلومتراً مربعاً، والضفة الغربية بعد اقتطاع 12 في المئة من مساحتها، أي 740 كيلومتراً مربعاً، لضم مناطق الاستيطان الصهيوني إلى «إسرائيل». وفي مقابل مساحة الـ 740 كيلومتراً مربعاً المراد اقتطاعها من سيناء، تحصل مصر على أراضٍ من «إسرائيل» غرب النقب منطقة وادي فيران مساوية للمساحة المقتطعة.
الجنرال ايلاند وضع مشروعه قبل توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الست في 14 الشهر الجاري، وهو، بالتالي، مبنيّ على معطيات ميزان القوى الإقليمي المائل، عندئذٍ، لمصلحة «إسرائيل» و»حلفائها العرب» المحتملين. بعد الاتفاق، ينتظر العرب والعالم، كما «إسرائيل»، تحوّلات بالغة الأهمية في موازين القوى الإقليمية والدولية. إزاءها يصدُق على الجنرال ايلاند وغيره القول المأثور: يقدّرون فتضحك الأقدار.
[email protected]
أضف تعليق