لا شك أن الأوضاع التي تعيشها دول عربية عديدة، وخاصة الدول التي أتاها الربيع إما متأخراً أو مبكراً، مأساوية ويرثى لها، ليس بسبب قيام الشعوب بالتمرد على أنظمة ظالمة ومستبدة تقمع حرياتها وتهدر مقدراتها وتضعها في دائرة البؤس والشقاء، بل بسبب غياب الحاضنات الوطنية الديمقراطية، العلمانية بوجه خاص، التي يمكنها أن تشكل رافعة للثورات وأداة للتغيير والنهوض بمهمات الانتقال من الاستبداد والديكتاتورية الى الديمقراطية والتنمية وتلبية متطلبات هذا التغيير. والأنظمة الحاكمة هي السبب في ذلك لأنها قمعت كل قوى المعارضة الوطنية بتلاوينها المختلفة من يسارية راديكالية حتى الليبرالية. كما ان القوى والأحزاب القائمة استكانت للحكم وقبلت بان تبقى ضعيفة وهامشية. ولم يتبق في المشهد السياسي العربي سوى حركات الاسلام السياسي المدعومة من الدول النفطية والغرب كبديل مثالي لأنظمة لم تعد مقبولة.

وصعود «داعش» والقوى التي على شاكلتها يعتبر تطوراً طبيعياً في ظل غياب القوى الأُخرى عن ساحة التأثير وفي ظل التخلف وفقر الثقافة وسيطرة الغيبيات والدجل الديني- السياسي. وما تعرضه هذه القوى على الشباب العربي هو الجنس والمال والسطوة والجبروت وهي أشياء تشد المراهقين وغير المستقرين نفسياً واجتماعياً وبعض الفقراء الذين يبحثون عن وسيلة للعيش بعد ان سدت في وجوههم الأبواب. ولا ريب ان الدعم المالي الكبير والسخي الذي تحظى به وكميات السلاح ونوعيته المتطورة تساهم في تعزيز قوتها.

في ظل هذا الواقع المأساوي يطرح السؤال التالي: هل المنطقة مهيأة وهل هناك إمكانية للعمل على تحقيق التسوية السياسية للصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي؟ الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة او يمكن ان تتلخص بكلمة نعم او لا، بل هي مركبة كما الأوضاع في المنطقة. ويمكن الحديث هنا عن رأيين مختلفين في الإجابة على هذا السؤال الحيوي والمهم: الأول يقول انه لا يمكن الآن الذهاب نحو تسوية سياسية لأن الدول العربية المركزية إما منهارة أو تعاني مشاكل جدية، فالعراق مدمر وفقد مكانته في العالم العربي ولم يعد دولة موحدة أصلاً، وسورية تقريباً انتهت ولم تعد قوة يعتد بها بعد سنوات طويلة من الحرب الأهلية والإقليمية التي قضت على الدولة المركزية الموحدة وهي دولة معنية بالتسوية بحكم وجود أراض سورية محتلة، ومصر وان كانت متماسكة وتحافظ على قوتها الا أنها تعاني من مشاكل الإرهاب ومشاكل اقتصادية تحد من قدراتها على التأثير إقليمياً ودولياً مع ان القيادة المصرية الحالية وخاصة الرئيس السيسي تحاول إعادة الدور المصري المفقود على الساحتين الإقليمية والدولية، وهنالك طبعاً ليبيا المدمرة وتونس التي لا تزال تعاني من الإرهاب بالرغم من استقرار النظام السياسي، يضاف اليها اليمن الذي يشهد حرباً أهلية، ودول الخليج وخاصة السعودية والبحرين والكويت لديها مشاكلها، عدا عن تورط بعضها في الحرب اليمنية. ويستند هذا التحليل على الموقف الإسرائيلي الذي يقول لماذا يتوجب الذهاب نحو تسوية تتضمن انسحاباً إسرائيلياً من الضفة الغربية في ظل أوضاع متحركة وغير مستقرة وهناك احتمال لتعرض إسرائيل لخطر الإرهاب -حسب ادعاءات الأوساط الرسمية الإسرائيلية. وأصحاب هذا الرأي يقولون بان إسرائيل غير مستعدة للسلام لأنها غير مطمئنة للنتائج وخاصة ما يمكن ان تحصل عليه بالمقابل اذا ما قامت بالانسحاب، ولديها تساؤلات حول الجهات العربية التي يمكن ان تشارك في التسوية وتضمنها.

والرأي الآخر يقول ان المبادرة العربية للسلام لا تزال موجودة على الطاولة وتحظى بإجماع عربي وهناك لجنة متابعة مشكلة من الجامعة العربية لدفع هذه المبادرة والدول العربية جميعاً توافق على فكرة التسوية ومستعدة للانخراط فيها، وبالتالي وبرغم كل ما يعصف بالعالم العربي لا تزال هذه المبادرة في صلب الاهتمام العربي وتشكل أولوية لعدد من الدول منها فلسطين ولبنان وحتى سورية لا تمانع في الوصول لتسوية. بل ان هناك دافعا لدى الكثير من دول المنطقة للتعجيل في التسوية تحسباً لحصول تطورات سلبية اكبر وفوضى أوسع. وهناك تطوران مهمان يمكن تسجيلهما في هذا السياق وهما ان أوروبا الآن باتت اكثر وعياً وإدراكاً للمخاطر التي يحملها إبقاء القضية الفلسطينية بدون حل، خاصة وان كل المنظمات المتطرفة تستخدم القضية الفلسطينية كعنوان لتحركها ولشعاراتها حتى لو لم تفعل شيئاً لصالح هذه القضية، حتى الحوثيون في اليمن باتوا يطرحون شعارات لها علاقة بفلسطين من قبيل «الموت لأميركا» و «الموت لإسرائيل» اكثر من شعارات تخص الوضع اليمني. والإرهاب اصبح يطال عدداً من الدول الأوروبية، وباتت أوساط أوروبية فاعلة تدفع باتجاه حل الصراع في منطقة الشرق الأوسط، هذا تبدى اكثر في موقف منظمات المجتمع المدني والبرلمانات الأوروبية. والموقف السويدي بالاعتراف بدولة فلسطين في حدود العام ١٩٦٧، والذي قد يتطور الى موقف أوروبي شامل او على الأقل موقف عدد مهم من دول الاتحاد الأوروبي.

والتطور المهم الآخر هو شعور عدد مهم من الإسرائيليين، يمكن القول انهم يشكلون النخبة الفاعلة المكونة من سياسيين وقادة أمنيين سابقين وأكاديميين ومثقفين وممثلين لمنظمات المجتمع المدني، بان الزمن ليس لصالح إسرائيل وان الحكومة الحالية تقود إسرائيل لصراع أبدي ودمار باستمرارها بسياسة الاستيطان والبناء في كل مكان في الضفة الغربية، وخلق واقع يجعل حل الدولتين غير ممكن بعد فترة، وهذا عملياً يلغي الحلم الصهيوني في دولة ذات أغلبية يهودية او كما يقولون يهودية. وهؤلاء يتحركون على الساحة الدولية من اجل الاعتراف بدولة فلسطين في حدود عام ١٩٦٧، وفرض الحل على اسرائيل.

اذاً الظروف برغم كل شيء مهيأة للعمل من اجل التسوية باستخدام كل أوراق القوة وخاصة المبادرة العربية للسلام التي يجب ان تطلق من جديد بآليات قوية ومقنعة وجهد عربي متكامل، لكن يبقى السؤال الأهم هل نحن الفلسطينيين جاهزون لمثل هذا التطور ونحن نعيش انقساماً مدمراً يتكرس مع الوقت و نفشل في التخلص منه؟ وهل نحن قادرون بوضعنا الحالي على إقناع أصدقائنا قبل أعدائنا بأننا قادرون على إدارة وضعنا ودولتنا فيما لو حصلنا عليها ؟ اعتقد انه يتوجب علينا مراجعة أوضاعنا وعلينا ان نقنع أنفسنا بأننا جاهزون وعلى قدر المسؤولية لكي نطلب دعم الآخرين، فإذا لم نساعد أنفسنا فمن يساعدنا؟ 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]