كان اللّقاء الأوّل عام 2001 في "حبيبتي ميليشيا"، نسخةٌ مصوّرةٌ من روايته القصيرة ضمن كتبٍ غير مرتّبةٍ بعد، أهداها الأديب حنّا أبو حنّا في حينه لمكتبة الكلّيّة العربيّة الأرثوذكسيّة، وتحديدًا على أحد رفوف غرفة الحواسيب الملحقة بقاعة المكتبة القديمة. يومها عدت بالرّواية من المدرسة إلى بيت جدّي لطفي في باقة، ولم أقرأها إلّا بعد أن حرّرتها جدّتي حليمة من إصرارها على قراءتها.

اسمه كان مرفقًا بعنوان إقامته وصندوق بريده في حيّ البحيرة بتونس، مع رقمي هاتفٍ له، دُوِّنَتْ بحبرٍ أزرقَ سائلٍ ذي خطٍّ أنيقٍ مهذّب، على آخر صفحةٍ بيضاء من نسخة الرّواية المصوّرة. لم أهتمّ حتّى الآن بمعرفة خطّ من، خطّ أبي حنّا أم خطّ مؤلّفها، فكلاهما جميل. من هنا كان الاتّصال الهاتفيّ الأوّل، وكانت الدّهشة الأولى.

تراسلنا ثلاث سنواتٍ بعدها عبر البريد الإلكترونيّ، أيّام الهوتميل وما أدراك (هل حقًّا صار الهوتميل والميسينجر تاريخًا؟!)، نتحدّث أدبًا وشعرًا وحكايا، واشتياقًا للوطن وتأمّلًا في الأيّام القادمة، ثمّ حاصرت الانشغالات كلينا، فشحّت المراسلات وانقطعت، أو ربّما كنّا مطمئنّين لوجود كلّ واحد منّا في مكانه، فلا خشية من أن يضيع، لذا لا حاجة لتكثيف التّواصل، فمتى أرادني وجدني، ومتى أردته وجدته.

2006، في المسرح الدّائريّ بالمركز الثّقافيّ الملكيّ، جلست على الأرض لأنّ مقاعد المسرحيّة العراقيّة السّاحرة (أظنّ اسمها جميلة والوحش) كانت ممتلئةً عن آخرها، جلست ملتصقًا بالحاجز الحديديّ الدّائريّ الأزرق المحيط بقاعة المسرح، مدلّيًا قدمايَ من علوّ، ومن خلفي قدما أستاذتي الّتي درّستني أوّل مساقٍ في الجامعة، د. عالية صالح، وكذلك قدما شخصٍ أنيقٍ، جميل الطّلّة، حنون الملامح، أبيض الشّعر، رافقها، ظننته زوجها. ذهبنا لنسلّم على الممثّلين بعد انتهاء العرض تقديرًا لهم على أدائهم الرّائع، وعلى المنصّة تحديدًا قرّرت د. عالية أن تعرّفنا إلى بعضنا، وما كنت أعرف صورته ولا يعرف صورتي؛ أو بالأحرى ربّما عرفناهما لكن ما عرفناهما لحظتها. شهقنا فجأةً، ارتفع صوتانا بكلامٍ غير مفهومٍ، وتعلّق في لمحة بصرٍ الواحد منّا بالآخر بكاءً، صار يتمتم: "الله يلعنهم ويلعن اللّي جابهم ع بلادنا، يلعن أبو الغربة، آخ يا حبيبي". صار يشمّ فيّ "رائحة البلاد" وسط ذهول الجميع، وقد نسينا أن نسلّم على الممثّلين حتّى ذكّرتنا د. عالية. يومها اتّصلت بأستاذي وصديقه فتحي فوراني، وتحدّثا كلامًا يفرحُ ويجرح، عن ماضٍ وقادم، بعد سنواتٍ طويلةٍ من الانقطاع.

توالت اللّقاءات بعدها، كلّما حلّ عمّان اتّصل بي، أحيانًا كان يجدني في البلد خلال العطل فيلعنني ويسبّني بخفّة ظلّه العجيبة: "الله يلعنك"، فنضحك. كانت لقاءاتٍ مليئةً بالتّفاصيل الجميلة، بالأناس الرّائعين، بالقصص والحكايا المدهشة، حزنًا وبهجةً، خشيةً واطمئنانًا، غربةً وحنينًا، وقلقًا، تسمعها ممّن يتقن القصّ حدّ الحبّ. أجمل تفاصيلها القهوة الّتي كان يعدّها لكلينا في فندقه اللّطيف الحميميّ القديم قرب الدّوّار الرّابع، الّذي اعتاد نزوله فاعتاده موظّفوه كأنّه واحدٌ منهم، قهوته الّتي وبّخني مرّةً لأنّني تدخّلت في إعدادها بطريقةٍ خاطئةٍ في نظره، فأنا أغليها مع الماء، أمّا هو فيغلي الماء أوّلًا ثمّ يضيف القهوة: "هذا فرقٌ مهمٌّ جدًّا، كالفرق بين أن تحبّ وأن تعشق"، قال وضحكنا.

صار يتّصل بعد 2010 فلا يجدني، دون أن يعلم أنّني أرغمت على ترك عمّان والعودة إلى البلاد، حتّى جمعنا اتّصالٌ هاتفيٌّ فلعنني ولعنهم ولعن الغرباء ولعن العالم.

زرت تونس عام 2012 فكان خارجها، وعندما علم بذلك لعنني ولعن السّفر والتّرحالات والمؤتمرات والمهرجانات. وزار الضّفّة الغربيّة عام 2013 ولم أعلم أنّه فيها إلّا آخر يومٍ لزيارته، فلعنني أيضًا لأنّني لم أتمكّن من لقائه، حتّى إن كان هو من يجب عليه إبلاغي، لكنّه لعنني، لا بدّ أن يلعنني لعناته الطّيّبة الحنونة.

اليوم، 05 أيّار 2015، بعد 41 عامًا من منافيه ومنافينا، في القاهرة وبيروت وتونس، نلتقي في مقيبلة، تمامًا مثلما وعدني ووعدته قبل ١٤ عامًا عبر الهاتف، ومثلما وعدني ووعدته في آخر لقاءٍ لنا قبل 6 سنوات؛ مقيبلة الّتي حكى لي عنها حكايا كثيرةً ساحرة ما زالت تدغدغ خيالي كلّما حضرت تضاريسها وشخصيّاتها بصوته ولغة جسده المرهفة، مقيبلة الرّحيل والعودة، والشّعر الأسود المصلوب على السّنابل، والبئر، وكفّ الأمّ ووجهها.

توفيق فيّاض، اليوم تكتمل الدّائرة يا صديقي، اليوم يمكننا أن نسهر، كما تواعدنا، على بحر حيفا وعكّا ويافا، وفي سهول مرج ابن عامر وباقة الغربيّة، وعلى قمّة الكرمل، نتحدّث عن أخبار الجميلات.

أحبّك جدًّا.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]