«الكوليسيوم»، مدرجٌ عملاقٌ لمسرحٍ أثري يتوسط العاصمة روما، كان الرومان يستخدمونه للترفيه عن الأسرة الحاكمة والشعب المطيع بعروض القتال، أو إعدام السجناء بطرقٍ وحشيةٍ؛ كترك الحيوانات المفترسة تنهشهم وهم أحياء، أو قتل السجناء -حتى الأبرياء منهم- والعبيد بعضهم لبعضٍ بالمبارزة التي يجب أن تنتهي بموت أحد المبارزين، ليصفق الجمهور مستمتعاً بمشاهد الدماء. ما أشبه ذاك «الكوليسيوم» بالـ«الكوليسيوم» المُسمى اليوم «الشرق الأوسط» وما يجري فيه من جنون، يتلاقيان في نقاطٍ كثيرةٍ أهمها أنهما قد يصبحان يوماً… شاهداً للذكرى.
تتوالى العروض على هذا المسرح، لكن ما ميّز الأيام الماضية أن العرض كانت فصوله بمعظمها من نوع «ميلو دراما» المبنية على المبالغة بالعواطف التي أتقنها «أبطال» الحرب على سورية، وبدل أن يستجروا عطف المشاهد، استثاروا ضحكه.
في الفصل الأول، خرج علينا وزير خارجية مشيخة قطر ليؤكد أن مشيخته تتعرض لمؤامرةٍ عنصريةٍ تهدف إلى سحب استضافة كأس العالم منها، تخيلوا الحديث عن العنصرية من مشيخاتٍ ألبست العبودية الحديثة «رداءً» سمته «نظام الكفيل»، لتحول عمال بسطاء العالم إلى سلعةٍ ووسيلةٍ لصناعة المجد.
أما الفصل الثاني فكان طرفه «أردوغان»، الذي نفى عن نفسه صفة «الديكتاتور» بالقول إنه ديمقراطي ويسمح للآخرين بشتمه، عندها نتساءل: أليس من أهم أعمدة الديمقراطية هو احترام الدستور؟ فأي ضغطٍ يعيشه أردوغان وحزبه ومشروعه حتى يضطر لأكثر من مرة للمشاركة في المهرجانات الانتخابية، الأمر الذي يحظره الدستور على الرئيس، تحديداً بعد أن أدرك أن توالي التسريبات عن تورطه بتهريب السلاح للإرهابيين في سورية وعدم استطاعته نفي ذلك هو أمرٌ مرشحٌ للتطور من مناظير مختلفة، بما فيها حديث «التايمز» البريطانية بالأمس عن ضرورة «تحجيم السلطان»؟
الفصل الختامي، كانت تصريحات لمقربين من «آل سعود» حول سعي إيران إلى ما سموه «تقسيم سورية»، لكن المملكة حسب زعمهم ستقف في وجه ذلك حتى لو اضطرت للمواجهة. هنا يصمت الحضور قليلاً ويتساءلون… مواجهة؟
دخل «آل سعود» الحرب على اليمن لـ«يطهروه» من شعبه، فانتهى بهم الأمر لمنعٍ كاملٍ عن نشر أعداد القتلى في صفوف مرتزقتهم، فعن أي مواجهة يتحدثون؟
قبل أسبوعين تحدثنا عن الاجتماع الذي تم عقده في عمَّان بين مسؤولين «سعوديين» و«إسرائيليين»، اتهمونا بأننا نلصق العمالة لـ«إسرائيل» بمن نشاء، لكن من قال إننا نتهم؟ بمعنى أشمل، منذ هبوط طائرةٍ لـ«آل سعود» في مطار بن غوروين وقيام شركة الطيران يومها بنفي الأمر ثم تعليله بأن الطائرة مؤجرةٌ لشركةٍ برتغاليةٍ، الأمر لم يعد اتهاماً ولم يعد يزعج «آل سعود» أساساً، ليتجسد قبل أيام بلقاءٍ بين الضابط السعودي السابق «أنور عشقي» وأحد كبار مساعدي نتنياهو، للتباحث في «سبل تطويق إيران»، تحديداً أن السلطة الدينية جاهزة لإصدار فتوى تبيح التعاون مع «الإسرائيليين» بهدف وقف المد الإيراني تماماً كما أفتى يوماً القرضاوي بجواز التحالف مع الناتو، تحديداً أن ما يعيشه «آل سعود» لا يبشر بالخير. إضافة لمشاكل الحرب على اليمن والصراع الداخلي السعودي، اكتمل الطوق بما يتم تسريبه عن ضغوطٍ يتعرض لها أوباما للكشف عن مصير 28 صفحة تم حذفها من تقرير يتحدث عن اعتداءات أيلول، تثبت تورط «آل سعود» بتمويلها، وأن «آل بوش» ساهموا بإخفاء هذه الحقائق لأسبابٍ عدةٍ، فهل أن التسريبات المتنوعة التي تتناول ثلاثي الحرب على سورية تأتي في سياق التخلص من أعباء المرحلة والتضحية بالحلفاء كلٍّ على حدة «من باب الاستبدال» أم هي في إطار ما حذرنا منه مسبقاً أن الأميركي يعرف تماماً ماذا يريد من المنطقة: التقسيم والبداية يجب أن تكون من سورية؟
من الخطأ بعد اليوم اعتبار أن الإدارة الأميركية تسعى إلى تقسيم سورية، بل الأدق أن الأميركيين شرَعوا فعلياً بإدارة عملية التقسيم، نقول هذا الكلام ليس من منطق التسليم بأن التقسيم وقع وأننا سنستسلم له، لكن من منطقٍ اعتدنا عليه دائماً وهو مواجهة الحقائق أفضل من تجميلها.
بدت إدارة الولايات المتحدة للتقسيم واضحةً من خلال سير المعارك في الشهر الماضي حتى كتابة هذه السطور، فكان توزيع العمليات فيها يقاس بـ«المليمتر». منذ ما جرى في «عين العرب»، هناك من قدم أصحاب المشروع الانفصالي كوريثٍ موثوقٍ للمناطق التي تُؤمَر داعش بالانسحاب منها لمصلحتها. كان هذا الأمر واضحاً وقلناه بالحرف إن صاحب المشروع الانفصالي شخصٌ لا يمكن إرضاؤه، ولا يمكن الوثوق به لدرجةٍ باتوا فيها يقولون إنهم «يقفون على الحياد في المعارك الدائرة في الحسكة»، فالداعشية ليست تطرفاً دينياً فحسب، هي وصلت حتى للعلمانيين، فما بالنا بأصحاب نظرية «العرق النقي»؟ حتى الهجوم الداعشي المفاجئ على الريف الشمالي لحلب الذي هو في النهاية مركز قوةٍ للقوى الإرهابية التي يسعى ثلاثي الحرب على سورية أن يقدمها كـ«قوى معتدلة»، يشير بشكلٍ واضحٍ إلى اتساع الهوة بين ما تريده الولايات المتحدة وما يريده ثلاثي الحرب، وإن كان كلاهما متفق على فرضية فصل سورية أيّاً كان الأسلوب، ليتجسد هذا الأمر بما يجري حالياً في الحسكة وتراجع داعش «المدروس» من قرى الريف الشمالي للرقة باتجاه الحدود التركية لمصلحة أصحاب الطموح الانفصالي وما سيتبعه من انسحاب داعش مستقبلاً من مناطق ريف حلب الشمالي تحت الضربات «المنتظرة» لأصحاب المشروع الانفصالي في «عفرين» وغيرها، عندها يصبح كل الشمال جهة متصلة، فما الذي فعلناه لوقف هذا المشروع؟
عاش المواطن السوري تناقضات أخبارٍ كثيرة تلاعبت به، عن وصول دعم من القوى الحليفة، وفي معظمها إشاعات لا أساس لها من الصحة، بمعنى آخر هناك من بات يتعمد إظهار ضعف الجيش العري السوري ويتناسى أن سورية دولةٌ ذات سيادة، وعندما ستطلب الدعم فهي ستعلن ذلك تحديداً أن الأمر يحكمه اتفاقيات، تماماً كما تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوماً عن أن ما ترسله روسيا من سلاحٍ يتم باتفاقيات مع الحكومة السورية الشرعية.
كذلك الأمر هناك بعض المحللين و«الشخصيات العامة» المحسوبين على الخط المقاوم بالغوا أحياناً في إيراد عباراتٍ هي في النهاية مطباتٍ وسقطاتٍ أكثر مما هي ادعاء «المعرفة بالكواليس»، فكيف لنا مثلاً أن نقول إن روسيا وإيران تحدثا أن قرار المواجهة اُتخذ، و«المتطوعين» بـ«المتطوعين» و«المال «بالمال»! ما هذه البهورات الإعلامية التي باتت تقدم الإرهابي الذي جاء من أصقاع الأرض باسم «متطوعٍ» مثله مثل القادم عبر أقنية نظاميةٍ، وتنفيذاً لاتفاقات تعاون بين الدول لا تحتاج إلى سبقٍ صحفيٍ لإعلان إعادة تفعيلها؟
بالتأكيد، المواجهة لوقف كل هذا الجنون قادمةٌ، لكن هذه المواجهة لها ترتيب يتجهز لردات الفعل، ويحاول أن يحجمها. ليس صحيحاً أن معركة إدلب بدأت، فالمعركة شئنا أم أبينا مرتبطةٌ بانتهاء الانتخابات التركية، لضمان كسر الدعم التركي بالحد الأدنى. ليس صحيحاً أن معركة القلمون منفصلةٌ عن كل ما يجرى من تجهيزٍ للمواجهة الكبرى، تحديداً أن من أهم نقاط التخطيط للمعركة القادمة ضمانُ ضبط «إسرائيل» وعدم دخولها في المعركة مباشرة، فتولى ذلك قبل أمس السيد «حسن نصر الله» بتحذيرٍ وجِّه لـ«الإسرائيليين» صراحة عند التفكير بأي حماقة. لا شك أن جماهير المقاومة والشعب السوري يستعجلون خوض ما يسمونه معركة إدلب أو الجسر، لكن هناك من يريد للمعركة أن تكون أشمل ومدروسةٍ بطريقةٍ أذكى من أن يتمكن الأميركي من إجهاضها عبر مشروعه الداعشي.
لا ندّعي أننا نمتلك معلومات -كما يروج البعض لنفسه- لكننا بكل تأكيد نستقرئ من كل ما يجري أن المواجهة حُكماً ليست بعيدةً، لا ندري ربما فإن السوريين يحبون تاريخ 17 تموز موعد خطاب القسم الأول للرئيس الأسد، فهل أن ذكرى القسم هذا العام ستكون بنكهةٍ أخرى يحبها السوريون فيصلون إليها وقد تحققت أشياءٌ كثيرةٌ تثبت لهم أن المحارب يرتاح ليخطط بهدوءٍ ورويةٍ، ولا يدخل المعركة اعتباطاً، تحديداً أن هذا الفارس يعرف تماماً من يبني جدران هذا «الكوليسيوم» الجديد، بل يدرك تماماً أن شبكة الطرق التي كانت تمر عبرها الحيوانات المفترسة لافتراس ضحيتها وزرع البسمة على الحاضرين، احتاجوا عقوداً لاكتشافها؟ فما بالنا عندما سنكتشف يوماً حجم الطرق التي كانت المؤامرة على هذه المنطقة تمر عبرها؟ عندها سنجد أن كل ما حدث هو صورةٌ مصغرةٌ عما خُطط له… إنه زمن الصبر والثقة بأن النصر قرار وليس خياراً.
[email protected]
أضف تعليق