تحيي جماهير شعبنا هذه الايام الذكرى الـ 20 لتأسيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي وسط ظروف صعبة ومعقدة، يعتلي ويتحصن فيها اليمين في اسرائيل في الحكم متغولا بالاستيطان ومصادرة الارض وهدم البيوت بينما أصبح الوطن العربي ايضا مستهدفاً بمخطط تفتيت عرقي وطائفي ومهدداً بوحدة ترابه الوطني ونسيجه المجتمعي.
سأحاول التطرق في هذه العجالة المكتوبة إلى عوامل اثنان سطرا ال20 عام للتجمع وهم البناء الداخلي للحزب ومواجهة نظام الاحتلال الاسرائيلي وقد اتطرق في خضم ذالك الى المرحلة المقبلة وهي الانتقال من المواجهة والبناء الى العمران السياسي والمعنوي عبر تعميق الحضور الحزبي للتجمع في الشارع وبناء المؤسسات الوطنية مثل لجنة المتابعة كجزء من تطوير جاهزية المجتمع للتعاطي مع التطورات التي تجتاح فلسطين.
منذ تأسيسه في منتصف التسعينات من القرن الماضي، ظل التجمع الوطني الديمقراطي يواجه حملات منظمة تستهدف تشويه فكره وبرنامجه من قبل الدولة تارة ،ومن الخصوم تارة، ومن ابواق السلطة تارة. كابد المؤسسون والناشئين في حضن الحركة الوطنية هذه الحملات خلال إنشاء حزب رؤوه مهماً على الساحة الفلسطينية والعربية لأنه يرتكز على الهوية القومية الجامعة والفكر الديمقراطي التقدمي النير وعلى فكرة المصالحة المجتمعية بين أبناء الوطن الواحد مع تقدير واحترام الفوارق المختلفة بيننا كشعب واحد (من هنا بدأت بذور القائمة المشتركة).
سُمّيت عملية بناء حزب التجمع بعملية إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية داخل الخط الأخضر. وكانت الحركة الوطنية في حينه حركات وطنية صغيرة، ذات توجهات قومية تحاول بين الفترة والأخرى منذ الخمسينيات وعلى مدار السبعينيات والثمانينيات إعادة بناء حركة وطنية فلسطينية، أو إطار وطني ديموقراطي.
لقد حملت المؤسسة الإسرائيلية شديدًا على عنفوان وإباء خطاب التجمع، الذي بات يهيمن على الخطاب السياسي للعرب الفلسطينيين في الداخل، وهو ما تجلى في الوثائق المستقبلية التي صدرت عام 2007 عن المؤسسات العربية المختلفة (لجنة المتابعة، ومركز مدى، وعدالة)، فكان من المؤسسة أن لاحقته منذ نشأته ملاحقة ترجمت باستهداف رأسه د.عزمي بشارة، ومحاولة إدانته لآرائه ومواقفه الداعمة للمقاومة، وتلفيق تهم أخرى له، ناهيك عن المحاولات المتكررة لشطب التجمع بناء على "لوائح اتهام" قوامها برنامجه السياسي الذي يهدف إلى تغيير جوهر الدولة من دولة اليهود فقط، إلى دولة كل مواطنيها.
ويأتي قرار لجنة الانتخابات مؤخرا بشطب النائبة حنين زعبي، القيادية في حزب التجمع، ليتوج هذه المساعي الحثيثة والمثابرة لنزع الشرعية القانونية وسلخ الحزب وقياداته عن شعبهم عبر تصويرهم بالتيارً المتطرف، الذي يلعب خارج قواعد العمل السياسي حسب التعريف الاسرائيلي لها.
خرط الحزب منذ تأسيسه على رايته التصعيد المحسوب وسياسة انتزاع الحقوق وليس الانبطاح لتحصيل الفتات. لكن الحزب أكد مرارا أنه ليس من هواة التصعيد المجاني. واستطاع عندما لزم الامر كما حدث في أحداث برافر رفع وتيرة المشاركة الشعبية السلمية في مواجهة هذا العدوان والتأثير على المؤسسة الإسرائيلية، وكذلك تعزيز اللحمة الوطنية لمجتمعنا.
كان اسقاط مخطط برافر احد أهم انجازات شعبنا التي ساهم فيها الحزب مؤخرا بشكل طلائعي وفعال مع باقي بنات وأبناء شعبنا اعتمادا على رؤيته الانتزاعية المبنية على الحق والعدل. وكان التجمع أحد المسؤولين الرئيسيين عن ارتفاع وتيرة الحراك الشعبي في الداخل الفلسطيني واتساع دائرة المقاومة المناهضة للتهجير والتشريد، والإجماع الوطني لفلسطينيي 48 على التمسك بالثوابت وعدم المساومة أو التفريط في أرض النقب، حتى تراجعت الحكومة الإسرائيلية عن طرح قانون "برافر/بيغين" وسحبته قبل التصويت عليه في القراءتين الثانية والثالثة.
واعترف الوزير السابق بيني بيغين الذي كلفته الحكومة الإسرائيلية بمتابعة تطبيق مخطط "إسكان البدو في النقب"، بعدم إمكانية تطبيق القانون بسبب المعارضة الشديدة التي يبديها السكان البدو الذين لم يُطلعوا على جوهر القانون، وبسبب أربعة مواجهات حاسمه للحراك الشبابي والتجمع وأحزاب اخرى في الجليل والمثلث والنقب ، أدت الى تجميد القانون الاقتلاعي .
ثم في جلسة بيني بيجِن في القدس التي أعلن فيها عن إلغاء القانون خَص هذا الوزير التجمع بالتحريض والمسؤوليه عن المواجهات ، اما وقد خصّ الامين العام للتجمع عوض عبد الفتاح باتهامه بالتحريض ضد المخطط واحضر معه وثائق الى الجلسه ، وقال بحضور النائبين باسل غطاس وجمال زحالقة انظروا ماذا كان يكتب ويصرح الامين العام للتجمع الذي اعتقلت الشرطة في المواجهات أبنائه وزوجته .
يدفع التجمع عن سبق إصرار ثمن التزامه بخطابه الوطني الديمقراطي ودفاعه عن مشروعية الهوية القوميه للمجتمع الفلسطيني وحقه بالتعبير الفعلي عنها إلى جانب نضاله من أجل إحراز مواطنة كاملة ونافية للمشروع الصهيوني وسيطرة الطابع اليهودي على الدولة. للتذكير،إعتمد خطاب التجمع على ركيزتين : هوية قومية ومواطنة كاملة.
أكد التجمع على هوية قومية نقدية لإخفاقات الحركة القومية العربية وأصر على المناداة بموقف لا يهادن الانظمة السلطوية العربية. كما اكد على أن إطلاق الحريات العامة وتحقيق الإصلاح السياسي من شأنهما أن يزيدا قوة المجتمعات العربيه في سعيها نحو استحقاقات الحرية والديمقراطية والمواطنة الكريمة وفي مواجهة محاولات الهيمنة الأجنبية على مقدرات الشعوب والأوطان. أمن التجمع أن إطلاق الحريات يدعم الاستقرار ويحمى المجتمع من التفسخ والشرذمة .
عمل التجمع خلال كل هذه السنوات بكد على تأصيل الانتماء لهُويّة وطنيّة عربية – فلسطينية، معتزّة بمنجزها الحضاريّ، ومتواصلة بفاعليّة مع عمقها العربيّ والإسلاميّ. وقد أكد التجمع في ظل الاستقطابات الطائفية والسياسية أن أولويته بناء هوية تتأسس على تعزيز اللّحمة بين أبناء الشعب الفلسطيني الواحد، تعزيز الذاكرة الجمعيّة والرواية التاريخيّة الفلسطينيّة، التأكيد على الحقوق التاريخية والسياسية للشعب الفلسطينيّ، واحترام التعدديّة الثقافيّة والدينيّة والمجتمعيّة الداخليّة للمجتمع الفلسطينيّ.
مشروع المواطنة الكاملة هو بوصلة ديمقراطية ومشروع صدامي يفضح عنصرية اسرائيل في الداخل، ويعيد الصراع إلى أصوله الحقيقية الكامنة أساساً في جوهر الفكرة الصهيونية، وهو جوهر لا يتعايش مع المساواة. وبالتالي فإن هذا المشروع هو فعل مناهض للصهيونية من حيث ان دولة اسرائيل هي تجسيد للفكر الصهيوني تتناقض جوهريا ووجوديا مع فكر المواطنة الكاملة الذي يحمل وحمل لوائه التجمع على المستوى المحلي وفي الوطن العربي.
إنّ التجمع الوطني الديمقراطي وأبناءه الذين أسسوا لمرحلة جديدة من تاريخ الحركة القومية الديمقراطية في الداخل بتاريخه المقاوم وحاضره المقاوم، لا يتطلعون إلى الذين يتهالكون ويسقطون على جوانب الطريق، ولا يتأثر بحملات مسعورة تخطط لها جهات تتربّص بالحزب ومناضليه في لحظات تاريخية مفصلية يواجه فيها شعبنا أشد الظلمات.
واذ تشير ممارسات الحزب أنّ الأولوية النضالية اليوم، هي حشد الطاقات في مواجهة العدو الصهيوني الذي يعمل على تهويد فلسطين بالمستوطنات وتشريد من تبقى من الفلسطينيين، ولذلك دعى الحزب في أكثر من مقام القوى الفلسطينية كافة إلى التداعي من أجل صوغ رؤية نضالية موحدة تعيد الاعتبار إلى نهج المقاومة وتطلق مسارات جديدة تعيد للصراع وهجه وتقصر مسافة التحرير والعودة، وذلك بعدما بات واضحاً أنّ نهج المفاوضات والمساومات يوصل المسألة الفلسطينية إلى التصفية.
طرح ابن خلدون مسألتي العمران والحضارة كظاهرتين بشريتين بشكل متكامل، وتحول العمران عنده إلى مصطلح متحرك، يرتبط، لزوماً، بنمط حياة المجموعة البشرية ونمط حركتها على الأرض. وهذا المفهوم الخلدوني ما قبل المعاصر ينطبق اليوم على النموذج المتشكل حديثا للتجمع الوطني الديمقراطي في خضم عملية البناء المستمرة، والتي تحمل بين طيّاتها أسس التنمية المستدامة والاستقرار والتقدم والتحرر تحت مظلة لجنة متابعة منتخبة.
لدينا مهام كبيرة وتحديات ضخمة وكل ذلك يحتاج إلى برنامج عمل مدروس وخطة طويلة الامد مع اهداف عينية واستراتيجية واضحة . وهذا ما يجب أن نعمل عليه ونُضاعف جهودنا بهدف ضمان استمرارية نضالية تشمل مهام البناء الداخلي للحزب والمجتمع الفلسطيني ومهام التصدي لنظام "الابرتهايد" المتشكل في بلادنا.
* عضو اللجنة المركزية للتجمع الوطني الديمقراطي
مبروك العشرينية ...
[email protected]
أضف تعليق