التقلبات التي حفل بها العالم العربي خلال السنوات السابقة إثرَّ الربيع العربي أفرزت عدة تيارات مركزية ....هذه التيارات الاساسية في العالم العربي مع اختلافاتها المتبايتة سعت للتمدد في فيه ، واحراز ما تستطيع من تأثير في ظل وضع جيو- سياسي معقّد.
هذا الوضع حَتّم على بعضها- أي التيارات- نوع من التناغم أحياناً ونوع من التصادم أحياناً أخرى وذلك مستنداً لوضع الدولة الوطنية التي حدثت أو تحدث فيها " الآزمة"، ولكن على المدى المنظور وربما البعيد سيستمر التصادم فيما بينها على بسط السيطرة على منطقة الشرق الاوسط وقيادة العالم العربي والاسلامي.
هذه التيارات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة تيارات مركزية – هناك تيارات أخرى نامية ولا أظن استمراريتها- ، التيارات هي :
اولاً..التيار الاسلامي الوسطي "الشوري " ويقف من خلفه الاخوان المسلمون بفروعها ومدراسها ويقف الى جانبهم ، جانبُّ من الديموقراطيين القوميين العرب بالاضافة الى تركيا وحركة حماس كحركة مقاومة فلسطينية (ناهيك عن دعم قطري له حساباته المبدئية والمصلحية). وهذا التيار يضع في سلم اولوياته حرية الشعوب وتقدمها كمقدمة لتحرير الامة وبنائها على اساس شوري وقوي. ويرى هذا التيار أن حل الازمات الداخلية وخصوصاً الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي والانحصار التنموي وانقطاع الأمة عن هويتها هو الرافعة لبناء الأمة وهذه الأولوية في هذه المرحلة، وبهذا يكون السبيل لنيل مجد الأمة وتحرير الأرض العربية والاسلامية المحتلة.
ثانياً.. التيار "الممانع" (كما يسمي نفسه) وهو بالأحرى التيار الايراني ويصطف فيه النظام الحاكم في سوريا والنظام الحاكم في العراق والحوثيين وحزب الله بواجهته المقاومة والتي تقف ضد اسرائيل وبخلفية طائفية ويقف الى جانبه بعض القوميين والشيوعيين العرب اللذين لا يرون سوى الولايات المتحدة والامبرالية في العالم.. ويرون بهذا التيار مناهض للاستكبار الغربي.. ضاربين بعرض الحائط مطالب الشعوب بالحرية والعدالة.
ايران، رأس الحربة في هذا التيار، كدولة اقليمية تسعى لبسط نفوذها وتوسعها وتأثيرها الاقليمي من خلال قيادة هذا التيار، والخوف أن اعتمادها الطائفي المذهبي أن يجر المنطقة لحروب طائفية أفظع مما نرى الان، وهذا يحتاج الأمر يحتاج لوقفة جادة من الجميع.
ثالثاً..تيار المهادنة الرسمي العربي وتمثله الانظمة العربية بمختلف تسمياتها وتقوده أنظمة الخليج وخصوصاً السعودية (حتى الان!) والامارات وسيسي مصر وابو مازن ويقف في صفهم بعض مخلفات القومية والسلفية..وهو متماثل مع الغرب.
يجمع هذا الفريق حرصهم على الحكم وخوفهم من التيار الاسلامي وتخويفهم من ايران.
توقعاتي ان هذا التيار سيتأكل من الداخل وسيعاني من تشققات وانشقاقات داخلية، فبعض القوميين العرب ممن يوالون هذا التيار لاسباب مختلفة لن يقبلوا أن يبقوا توابع أو في الصف الامريكي وسيعملون على التغيير وبناء تيار قوي لهم بقيادة مصرية ودعم روسي ، ولكن هذا الامر صعب لتراجع قوة التيار القومي من ناحية وللتخوف من الدعم الروسي لايران من ناحية اخرى.
التيار الاقوى شعبياً (كما اظهرت الانتخابات) والاكثر سعياً للحرية والعدالة هو التيار الاول ولكن ما لا يملكه هذا التيار هو القوة العسكرية، والسؤال هنا هل عدم امتلاك هذه القوة هو نتاج الفكر الاصلاحي الذي يتبناه هذا التيار وكونه لم يفكر بامتلاك واستخدام السلاح حتى ولو دفاعي في سياق تعامله الداخلي، ام أن انحصار امتلاك ادوات القوة المادية هو حصيلة عنصر المفاجأة التي حدثت في الربيع العربي.... ام أنه نتيجة تكالب الغرب والمؤسسة الرسمية والتيار الايراني عليهم، وحجب عنصر القوة عنهم بل واضعافهم، لكون كل هذه الفئات ترى بهم خطراً استراتيجياً على مشروعهم التوسعي وبالتالي سعوا لاضعافهم!
لكن في هذا السياق يجب عدم تناسي ملاحظتان اثنتان :
الملاحظة الاولى: هناك تيار متنامٍ لما يسمى بالتيار السلفيي الجهادي ويتصدر مشهده اليوم تنظيم الدولة (وهو حصيلة فكر وفهم غير سوي للدين وفيه غلو بالتكفير واجرام، مع محبة رواده للدين) وهذا التيار من وجهة نظري نتاج للتيارات الثلاثة المركزية الاولى ، كم انه ردة فعل عليها .. وهو لا يملك حاضنة شعبية طويلة الامد، ولذلك لا أظن أنه سيكون تياراً مركزياً في المستقبل وانما ظاهرة تنمو وتتراجع تبعاً للظروف.
الملاحظة الثانية: هناك علاقات بينية بين التيارات تفرضها الظروف المحلية، فمثلاً ايران دعمت حماس عسكرياً وهي أي الاخيرة محسوبة على جماعة الاخوان المسلمين.. والاصلاح اليمني وهو حزب يمثل الاخوان في اليمن يدعم عاصفة الحزم.. وكذا علاقات بينية مختلفة بين التيارات الاخرى تفرضها المصلحة السياسية في كل قطر فيجب عدم نفي أو تناسي تقاطع المصالح هذا ووضعه في سياقه وحجمه المناسب سواء داخل التيارات الثلاثة السابقة الذكر اوفيما بينها او كل منها على حدة مع مكونات سياسية خارجية او كل مكون من داخل هذه التيارات مع الخارج اذ أنَّ منطق المصلحة في العمل السياسي يجب أن لا يغيب عن أذهاننا ونحن نرصد حركة هذه التيارات .
أخيراً، لا شك أن الأمة تمر بمرحلة صعبة في السنوات الاخيرة ولكن برأيي هذه المرحلة ستكون لها افرازات ايجابية كونها أجلت- أوضحت- الكثير من الحقائق وأظهرت الكثير من المعطيات مع كل السوداوية التي فيها، والفائز هو من يتعلم الدروس مما حصل ويحصل..!
زميل بحث في مركز الدراسات المعاصرة وطالب دكتوراة في العلوم السياسية في جامعة هومبولدت في المانيا
[email protected]
أضف تعليق