وصف كثيرون تشكيل القائمة العربية المشتركة باللحظة التاريخية، وبنى عليها البعض آمالًا أكبر من أحلام مراهق.
لم أكن من مشجّعي هذا الخيار لأسباب أتيت على ذكرها في مقالات سابقة، وكنت أفضل أن تتنافس قائمتان كبيرتان على أصوات العرب واليهود الديمقراطيين، بعد ضمان تنسيق وطيد بين القائمتين يتعدى الاتفاق التقني حول فائض الأصوات الذي قد يثمر بزيادة الأعضاء المنتخبين عضوًا آخر.
ربما أحس أعضاء لجنة الوفاق أن السياسيين أكثر مخلوقات الأرض تحايلًا على عوامل الانقراض التي تعتري مستقبلاتهم، وهم مهرة في فن البقاء وفنانون في لعبة الكراسي ومسارح الظل، ولذلك، رغم كل الانتكاسات التي برزت خلال محاولات تشكيل القائمة المشتركة، نجحت اللجنة، أخيرًا، بالتوفيق بين الفرقاء، خاصة أنه، مع صدور قرار حل الكنيست الإسرائيلية وتحديد موعد للانتخابات العامة ورفع نسبة الحسم، أشاع من أشاع أن المعادلة الوحيدة الممكنة، لإنقاذ الوجود السياسي العربي في البلاد، كما فرضها الواقع، وروّج لها البعض، وخاف من تجاهلها آخرون، هي أن يدخل كل العرب تحت خيمة واحدة، وإلّا سيقضي عليهم هجير الفرقة.
يؤمّل دعاة القائمة الواحدة أن التوافق بين قادتها سيؤدي، حتمًا، إلى رفع نسبة المصوتين العرب، وبالتالي زيادة عدد النواب المنتخبين عن عددهم اليوم. لن يكون ذلك مستحيلًا، ولكن، كي يصير ذلك ممكنًا، على القادة جسر كثير من الهوّات التي خلّفتها حروب القبائل، وندوب سيوف فوارسها ما زالت محفورة على جبين جماهيرنا وخدود الوطن. فما نفثه هؤلاء القادة في العقدين الأخيرين من سموم في حقول بلادنا وما زرعوه من قتاد وتشكيك، ما زال يعيق حماسة كثيرين للالتحاق بهذه المسيرة، التي بدت فيها الجياد وكأنها تتسابق على الصدارة وإنقاذ من على ظهورها، يمسكون بالرسن.
قد تكون تلك أصعب المهام وأكثرها إلحاحًا، خاصةً، بعدما ضبط قرار نتنياهو المذكور، معظم الأحزاب والحركات العربية وهي في حالات صراعات داخلية، وأقسى منها تلك التي كانت تدور بين الأحزاب وبعضها؛ إلى ذلك، فإنني أرى أن مهمة إقناع كثيرين من الناخبين "المبدئيين"، ليست أقل أهميّة، من المسألة الأولى، فالبعض يبدي تململًا واضحًا وميولًا لعدم المشاركة في الانتخابات أو بالتصويت بورقة بيضاء. إن إهمال موقف هؤلاء قد يفاجئ من ينتظر أمواج الناخبين تتهادى على شواطئ صناديق الاقتراع، فعلى قادة الجبهة، مثلًا، أن يعملوا بجهد كي يقنعوا جبهويين لن يستسيغوا التصويت لابن الحركة الإسلامية، حتى لو كان الثمن عدم قبولهم بتبعات وحدة "بلاستيكية"، وكذلك سيكون على قادة الحركة الإسلامية ان يقنعوا مؤمنين لن يصوتوا إلى حزب شيوعي، تمثله امرأة ويهودي، فإرضاء الرب عندهم، أولى من تفريح عبده، وإن كان ذلك غير كاف، فيجب أن لا يخفى، موقف تجمعيين تربوا، في العقد الأخير، على أن أحمد الطيبي، يشكل خطًا أحمر،لا يُقترب ولا يؤمن له جانب.
أمّا عقدة النجّارين فستبقى، من دون شك، تلك الآلاف من الناخبين الذين يقاطعون الانتخابات، إمّا امتثالًا لموقف قادة الحركة الاسلامية الشمالية، أو قبولًا لدعوات حركة أبناء البلد التقليدية التاريخية، أو أولئك المستاؤون من تصرفات قيادات الجماهير العربية لسنين خلت، وآخرون فقدوا ثقتهم بالدولة ومؤسساتها "فأناخوا إبلهم" واستراحوا.
لن تتحرّك هذه الآلاف ولن تعدل عن مقاطعتها للانتخابات، فقط لأن الأحزاب الأربعة استشعرت خطرًا على استمرار وجودها في الكنيست، ممّا "اضطر" قادتها وبعدهم أعضاؤها، إلى"التعربش" على الأسوار والاستجارة بدالية دانية قطوفها! فالمنطق معاكس، ويجب أن يقود من آمن، كل لأسبابه، بوجوب عدم وجود العرب في الكنيست، أن يتمسك اليوم أكثر بموقفه، وأن يعمل أكثر لإحباط مهمة من يريد زيادة عدد نوّابه في الكنيست الإسرائيلي؛ وعليه نسأل هنا، ماذا فعلت هذه الأحزاب في السنوات الماضية كي تفنّد مزاعم من ادعى أن المقاطعة نضال وطريق، وصرّح أن تحريم التصويت واجب وموقف وطني وديني سليم؟ هل في مقدور هذه الأحزاب، ولم يبق ليوم الانتخابات إلّا بضعة أسابيع، أن تنجح بما فشلت فيه طيلة عقدين؟
في مقالة سابقة حذرت من إمكانية نشوء أحزاب مغايرة لأنماط الأحزاب الناشطة بين العرب في البلاد، وستكون، بالطبع، أدوات تمثل قوى سياسية واجتماعية نمت وتنمو في مجتمعاتنا.
من إرهاصات تلك الظاهرة، قد تكون انتسابات بعض الأكاديميين والشخصيات الشعبية المقبولة في أوساط عربية عريضة، إلى الأحزاب الصهيونية، وتزاحم هؤلاء على تمثيل تلك الأحزاب في الكنيست القادمة. ربما كانت الأبرز، في هذه المعركة، شخصية الإعلامي زهير بهلول، الذي انضّم من موقعه السابق، كإذاعي عربي معروف، وكصديق حميم لمعظم القادة الوطنيين والإسلاميين، مباشرة إلى قائمة حزب "المعسكر الصهيوني" وهو كائن يجمع "مجد" الصهيونية من قرونها.
خطوة السيّد بهلول تستحق أكثر من همسة، ولكن ما لفت انتباهي هو صمت جميع القياديين عن هذه الخطوة، ربما بدأ بعضهم يؤمن أن عدوًا عاقلًا خير من حليف جاهل، خاصة بعد أن بادر السيد بهلول وعقد لحزبه اجتماعًا واسعًا حض فيه الحضور واستنهضهم من أجل إنجاح حزب "المعسكر الصهيوني" وبارك بنفس الوقت، القائمة المشتركة وتمنى لها النجاح!
لم تبدأ القضية مع خطوة زهير بهلول ولن تنتهي بها، بل هذه حالة أخرى من حالات السراب العربي المنتشر، وإغفال القادة ما استجد بين الجماهير من تطوّرات وقضايا، بعضها أسميته "ديليما" (المعضلة)، وهي تستصرخ معالجة وتبكي على المواقف؛ فهل ستقدر القائمة المشتركة على تسمية الأشياء بأسمائها؟ وهل هي قادرة على الإجماع حول تشخيص أمراضنا كي تجمع على نوع الدواء وكيف قد يكون الخلاص؟
أتمنى ذلك وأخشى، فلقد صدر عن القائمة المشتركة واسمها "ومض"، حتى الآن، بيانان؛ فسّر الأول بالنيابة عن دوف حنين الجبهوي،ما تعني له حرية التعبير، وتضمّن الثاني، ما أجمعت عليه الأحزاب من شعارات ومواقف.
أنصح من لم يقرأ البيانين أن يفعل، ليتحقق، هل حقًا ولدت قائمة عربية يهودية موحدة قادرة على حماية مستقبلنا؟ أم هي ومضة عربية عابرة و"إيلاف"عصري بين قبائلها؟ وسيتبع...
[email protected]
أضف تعليق