لم يعد مهما ما قاله النائب دوف حنين في ضوء ما يُقال تعقيبا على تصريحه الأول الذي حرّف أو لم يحرّف! فقد تدحرجت كرة الثلج أبعد مما نتصوّره بسبب تشكّلها في منزلق الانتخابات الذي يتربّص في زواياه كثيرون ليس لدوف وحده بل للقائمة المشتركة أو للتحالف أو لمركّب من مركّبات القائمة. لكن التربّص هو كالتربّص لا يحدث كي يواجهك المتربّص بل كي يفاجئك ويوقع بك من حيث لا تنتبه، وأحيانا من سهو يقع!
كثيرون على عدد رمل البحار هم الذين انبروا يحسبون أن صيدهم ثمين خاصة عشية انتخابات. ودوف ـ ما العمل ـ غير مسلم ويهودي. وهذا مدخل لاتهامه هو بمعاداة الإسلام والإساءة لهم. وكل ما في الأمر أن الرجل مع حرية التعبير كقيمة ـ هكذا كان كفاعل يساري مقابل مجتمعه الذي كان قاسيا معه وهكذا ينبغي أن يكون مقابل مجتمعنا نحن ـ المبادئ والقِيَم ينبغي ألا تموت على مذبح الشراكة مع العرب ـ معنا. كما أعرفه وأفهمه وأفهم كلامه في جوهره أنه مع حرية التعبير كقيمة عليا خاصة بالنسبة لكل مَن هو أقلية أو في موقف ضعف أو معارضة. لم تستشره المجلة الفرنسية فيما نشرته، ولو استشارته لأوصاها بالتنازل عن فكرة الاقتراب من النبي ورسالته. بمعنى، أن موقفه المبدئي هو مع حرية التعبير والنشر وليس مع الإساءة لأحد.
ليس صدفة هذا التمسّك بحرية التعبير أينما ذهبنا ولو كانت تحمل في طياتها ما يؤذي الأذن ويطرف العين ـ لقد مات الملايين في التاريخ وقُمع الملايين وسُجن الملايين ـ وكلهم من المستضعفين من شرق الأرض وغربها ممن أكلتهم المؤسسات الدينية والسياسية والقومية والطائفية والملكية والحمائلية، القديمة والحديثة لقمةً سائغة ـ ماتوا لأجل حرية التعبير، من أجل أن يقولوا رأيهم في الحاكم أو صاحب السطوة والسلطة. ولأجل هذا في كل المجتمعات والثقافات مَن يرفضون بشكل قاطع إخضاع هذه الحرية لأي قيد ـ خاصة بعد كل هذه التضحيات والبطولات لأناس خلّدهم التاريخ كحرّاس حرية التعبير والحق في معارضة الهيمنة ـ أي هيمنة.
هذا صحيح ألف مرة في سياقنا كفلسطينيين وكعرب قُمعت حرياتهم وحقوقهم ومنها حرية التعبير. ودفع منا مئات الآلاف ثمنا لذلك قتلا وجلدا وسجنا ونفيا وكل الأفعال المشابهة في المضمون. كيف تحوّلنا من جملة واحدة من ضحايا قمع هذه الحرية إلى سيّافين وجزارين نريد أن نقيم لدوف حنين محكمة ميدانية أو مقصلة لو قدّر لنا!
يبدو لي أحيانا أن هناك مَن يريد في سياقنا هذا تحديدا ـ وفي السياق العام لخطاب الإساءة للنبي محمد ـ الخلط بين معاداة الإسلام وبين حرية التعبير. هناك مَن تشغله هذه الحرية كهاجس في حقلي السياسة والثقافة والاجتماع، وهو مستعدّ للتحدي على الدوام بالكلمة والصورة والعدسة والتظاهرة والاعتصام وما تيسّر من وسائل. ويحظى هذا الفعل باحترام القانون والعُرف ونظام الحريات في حقبة ما قبل الدولة وبعدها. وهو ينطلق أساسا من جُملة مفاهيم تجذّرت عبر التاريخ ومنها: ضرورة ضمان حرية نقد السلطة ـ أي سلطة بما فيها السلطة الدينية في أي ديانة; ضمان الحرية من الأديان والمعتقدات كخط مواز لحماية الحق في المعتقد الديني وممارسة الشعائر الدينية; الحق في التعبير بغير محاذير أو قيود خاصة وأن السلطات كافة مارست عبر التاريخ وفي كل المجتمعات قمعا منهجيا لهذه الحرية بحجج وذرائع لا نهائية. وقد وقع القمع والظلم عادة على المستضعفين والأقليات والمختلفين. وعليه، عندما تُمارَس هذه الحرية فإن ممارسيها لا يقصدون الإساءة لأحد وإنما أخذ حرية التعبير بجد إلى آخر الرمق. هكذا كان قبل ولادة الإسلام السياسي وتمدّده وقبل ظهور "حساسية" العرب لهذه الحرية. بل إن ممارسيها عبر التاريخ مارسوها في مواجهة كل سلطة ومرجعية يُمكن أن نتخيّلها، سياسية كانت أو دينية. هكذا المجلة الفرنسية شارلي ـ إيبدو وغيرها من مؤسسات إعلامية وصحفيون وكتاب ومبدعون منتشرون من أقاصي الدنيا إلى أقاصيها. وهؤلاء مشغولون بالحريات لا بالإساءات لهذا أو ذاك. ومع هذا نشير إلى أن هذه الحريات المرتبطة ليس فقط بحقوق المواطن بل بحقوق الإنسان أيضا خاصة في أوروبا ـ تُستغلّ بأدي معاداة السامية ومناهضة الإسلام وكارهي الأجانب والعنصريون ـ ومع هذا سيكون أفضل لنا كفلسطينيين أن نُقيم الفارق بين عنصريين من كل لون وصنف وبين أناس أحرار يمارسون حرية التعبير كما يفهمونها من منطلق الإخلاص لضحاياها عبر التاريخ وبينهم آلاف مؤلّفة من العرب! لكن لا بدّ أن نسأل هنا ـ ماذا كان سيحصل لو أن غير المسلمين أرادوا الردّ على كل خطيب مسجد أو داعية أو شيخ مسلم على الأرض العربية أو الأوروبية يكفّر غير المسلمين وينعتهم بشتى النعوت؟ أو على كل أصولي يذبح رهينة؟ أو على كل فيلق من "الجهاديين" ينبش ضريحا أو يدمّر مزارا؟ هنا ـ يبدو الحديث عن الإساءة للنبي محمّد نوعا من الإحساس بالنقص يصير استعلاء معكوسا على غير المسلمين أو مَن يُعتبرون كفارا في نظرهم ـ أليس لغير المسلمين مشاعر أو قيم؟ إنها في اعتقادي المواجهة بين ثقافة وصلت إلى حيث هي بفضل حرية التعبير تحديدا وبمعناها الواسع وبين ثقافة تريد أن تفرض نقيصتها المتجسّدة في رفض مبدأ الحريات كافة وإلغاء العقل المفكّر عُرفا ومنهجا!
لنقرّ ونعترف أن الإساءة للنبي محمد وللإسلام وللثقافة العربية من رسومات كاريكاتير أو غيرها تكاد لا تبلغ مثقال ذرة غبار قياسا بالإساءة التي تأتي من تفنّن مرجعيات إسلامية دعوية وسياسية في الانقضاض على الحريات كافة بما فيها الحريات الشخصية وحرية التعبير وعلى غير المتدينين والمختلفين في العقيدة ورعايا الديانات الأخرى وقمع المعارضين وتصفيتهم وسجن المثليين والمثليات. وهي تأتي بشكل يفوق كل الرسوم التي كانت أو ستكون وكل قول، فيما أنتجته داعش والقاعدة وكل المنظمات الأصولية التكفيرية من تمثيلات مرعبة للإسلام، ومن فنون الذبح والإعدام المبثوث الذي تصدره هذه "الثقافة" للعالم وليس من دوف حنين تسرّع في تصريحاته أو تأنى! لكنني لا أرى أيا من المنتفضين على دوف حنين ينتفضون على هذه الإساءات الكُبرى، وهي ما دمّر الإسلام دينا وثقافة وصورة ومعنى! ربّما لأن الفاعل هنا مسلم أو مسلمون!
المؤمنون بالنبي وكل المؤمنين بكل الأديان والأنبياء وارُسُل والقديسين ينبغي أن ينتبهوا إلى أن الكتب والمخطوطات الدينية القديمة والحديثة، وكل المعتقدات وأشكال الإيمان، تشكّل بالنسبة لكثيرين في العالم ظواهر تاريخية أو اجتماعية أرضية تماما ـ لا سماوية ـ قد تكون جديرة بالاحترام، وهي في الوقت ذاته قابلة للنقد وعُرضة لإعمال العقل المفكِّر! وقد يذهب البعض أبعد من هذا فيُخضعوها لحس النكتة وللسخرية المرّة. ولهؤلاء حق في معتقداتهم، أيضا. وللحقيقة، هؤلاء هم الذين أنتجوا العلم وأهدوه لنا طبقة فوق طبقة وصنعوا معجزات العلم ومُنجزاته المادية والروحية، وهم الذين أنشأوا الدولة ومفهوم المجتمع وآليات تصريفه وإدارته وفق سلم من المعايير بما فيها مفهوم حرية التعبير الذي يتحدثون عنه ومنه الآن!
مَن أراد أن يعارض تشكيل القائمة الموحّدة فليتفضّل علينا بمسوغاته وليس بحديث مُوارب عما صرّحه أو لم يصرّحه دوف حنين. مَن أراد أن يقول رأيه في دوف حنين وأن ينعته بأنه صهيوني فليأتنا بإثبات على قوله. قولوا بصراحة دون أن تتربّصوا في منزلق الانتخابات منتظرين صيدا ثمينا. وأعدكم أن لا أحد سيُطلق عليكم الرصاص بدافع حماية حرية الرأي!
لا أعتقد أن خروج الثقافة السياسية والحياة العامة عندنا ـ وفي رحاب الثقافة العربية عامة ـ من هذا "الفيلم" ممكن إلا بتوفّر حرية تعبير مُطلقة تخترق محاذير وقيود و"سلطات" أساءت حتى الآن لمجتمعنا وقبضت على روحه وشوّهت ثقافته وأنتجت مظاهر عُهر ثقافي ووعي وطني كاذب ومنظومة أخلاقية قِيَمية مثقوبة كالتي نحن بصددها.
وعليه، الفضيحة ليست في تصريحات دوف حنين الذي بدا متمسكا بمبدأ حرية التعبير كحقوقي وليس فقط كنائب برلمان في المعارضة، بل في الذين يُعتبرون في سياقنا ضحايا غياب الحريات وحضور التمييز والاضطهاد لكنهم يطلعون علينا بكل هذا الكلام القامع أو المرائي أو الموارب
مستغلين المنزلق الانتخابي ـ إنها فضيحتهم هم!
[email protected]
أضف تعليق