كثرت التحذيرات الفلسطينية وغيرها التي تؤكد أن قطاع غزة على "كف عفريت"، وأنه يتعرض إلى طاعون حقيقي فرض السواد على كامل هذه المنطقة الجغرافية التي ما عادت بنظر الكثير من الناس صالحة للعيش لأسباب كثيرة.
غزة يومياً على موعد مع قصص مثيرة يختلط فيها الحابل بالنابل، وهي إما قصص من صناعة أهلها، أو من قبل الاحتلال الإسرائيلي الذي يتربص بالقطاع ولا يريد له أن يرتاح ويلتقط أنفاسه، ناهيكم عن الحصار الدولي المفروض على القطاع الذي أعاده إلى عصور الجاهلية.
لم تعد غزة تحتمل المآسي التي يذوقها الفلسطيني هناك، خصوصاً وأن للصبر حدودا، ويبدو أن سكان القطاع الذين وصلوا إلى الحد الأدنى من الحياة المعيشية، لم يعودوا يتحملوا الأوضاع الكارثية التي تشهدها هذه المنطقة الجغرافية المحدودة.
أكثر ما يقلق المواطنين في غزة هو غياب الرؤية لأي مشروع تنموي حقيقي، يتصل بذلك بطبيعة الحال انعدام الأمن والأمان وتعميق الانقسام هذه المرة، ليس بين حركتي "حماس" و"فتح"، وإنما حتى بين أنصار حركة التحرر الوطني.
عموم الناس مستاءة من النموذج الذي تقدمه "حماس" في غزة، لأن القطاع لم يشهد تطورات واضحة، لا على الصعيد السياسي ولا حتى الاقتصادي والاجتماعي، بل على العكس من ذلك، فلّ الكثير من الفلسطينيين إلى دول الشتات، ومنهم من ذهب إلى الموت بأرجله في سبيل البحث عن حياة آمنة.
وكان يفترض أن يوفر إعلان إنهاء الانقسام بين فرقاء الصراع رصيداً إيجابياً للقضية الفلسطينية، إلا أن الانقسام ظل متسيداً المشهد الفلسطيني وحاضراً في كل وقت، وزاد الطين بلة حين دعت "حماس" إلى انعقاد المجلس التشريعي دون أن يكون للرئيس محمود عباس أي دور في هذا الشأن.
الاتهامات عادت من جديد بين أصحاب الانقسام، وحيث يدعي كل طرف أن الطرف الآخر يرغب في الاستفراد بالحكم ورفض الشراكة على قاعدة "الانبساط" من الوضع الحالي وعدم التنازل عن "الكعكة" التي يستحوذ عليها.
وزيادة على صعوبة الأوضاع المعيشية من سوء وشح في الكهرباء والمياه ومواد الطهي، وإغلاق معبر رفح البري الحدودي مع جمهورية مصر العربية، تتدهور الحالة الأمنية في غزة، وتحدث انفجارات بين الوقت والآخر، تضيف تساؤلات كثيرة وتزيد ضبابية على المشهد الغزي السوداوي.
حدث مؤخراً في غزة أن عقد مؤتمر في قاعة رشاد الشوا شارك فيه أكثر من 200 كادر فتحاوي محسوبين على القيادي محمد دحلان، جرى فصلهم من وظائفهم ولم يحصلوا على رواتبهم من رام الله بسب ما قيل رسمياً بأن المشاركين خالفوا التعليمات وشاركوا في نشاطات معادية للسلطة والشرعية.
مثل هذه الإجراءات بالتأكيد ستعمق من الانقسام، لكن هذه المرة في صفوف حركة "فتح"، بالإضافة إلى كونها ستخلق عداوات مع السلطة ومع حركة "حماس" التي سمحت بعقد هذا المؤتمر والتي سمحت أيضاً لأنصار دحلان بالخروج في مظاهرة تندد بسياسة الرئيس عباس.
ومؤخراً أيضاً خرجت مظاهرة في غزة لجهاديين سلفيين باركوا وأيدوا تنظيم "داعش" المتطرف والهجمات التي وقعت في فرنسا وأدت إلى مقتل العشرات من العاملين في صحيفة "شارلي إيبدو"، وهذا الفعل وقع بعلم من الأجهزة الأمنية الحمساوية ومراقبة منها وحراستها للمظاهرة.
أن يقع كل ذلك بدراية من "حماس" وبسماحها لهذا الفعل، فإن هذا يعني أن الحركة ترغب بأن تقول في رسالة للجميع، إن نموذجها في الحكم أفضل من النماذج التي تم استعراضها سابقاً، وهذا ما أصبح يقوله ويردده عدد من الفلسطينيين بأن "حماس" عندهم أهون من الجماعات السلفية ومن في حكمها.
وربما يشكل ذلك مؤشراً على أن موضوع العودة إلى المصالحة وترقيعها أمر بعيد المنال، خصوصاً وأن غض "حماس" الطرف عن قضايا كثيرة من بينها التفجيرات التي جرت مؤخراً لقيادات فتحاوية وقصة جماعة دحلان، سيعقد الأمور مع السلطة ومع حركة "فتح" التي تتحسس كثيراً من هذا الموضوع الأخير.
والحقيقة أن سيناريوهات حالة قطاع غزة لا توحي للتفاؤل قياساً بما يحصل على أرض الواقع، ذلك أن الخلاف ما يزال عميقاً بين كل من "فتح" و"حماس"، ويتسع أكثر مع عدم إنهاء مشكلة موظفي القطاع من حركة "حماس"، ومع عناوين كثيرة من بينها حكومة التوافق الوطني وموضوع معبر رفح.
الكل في غزة متشائم ويشتم هذا الحال المزري، ولو ظل القطاع على هذا المنوال فإنه قد يتحول إلى منطقة توتر مستمرة، خصوصاً وأن التعصب واليأس والعنف تنشأ في إطار حاضنة تعج بالفقر والألم والمعاناة والاحتقان، وربما توفر غزة مثل هذه الأجواء عبر وقودها الشباب العاطل عن العمل.
إن عدم وجود مصالحة حقيقية وغياب رؤية استراتيجية للفعل الوطني، بالإضافة إلى تدهور الوضع المعيشي وسوء إدارة البلاد والعباد، جميعها توفر بيئة خصبة جداً لظهور جماعات متطرفة في القطاع، خصوصاً وأن هناك أطرافا من بينها إسرائيل، تشيطن غزة وتريد لها أن ترزح تحت الفقر والظلم والتخلف، وتحاول منذ سنوات وصمها بـ"الإرهاب".
المعالجة الفعلية وتصحيح هذا المسار الملتوي، تستلزم على فرقاء الانقسام أن يتوحدوا تحت العلم الفلسطيني، وأن يشرعوا سريعاً في معالجة وإزالة الأسباب التي توفر نبضات موتورة لأفعال انتقامية، وإلا فإننا معرضون "لتسونامي" يضرب بقوة في جذور المجتمع الفلسطيني وفي لحمته الوطنية.
هذا الكلام ليس مجرد حشوات في قالب تحليلي وكفى الله المؤمنين القتال، إنما هو مناشدة نابعة من القلب تستهدف وقف "أبلسة" غزة واللعب فيها، والتفكر بعقل ناضج نحو انتشالها من مستنقع الظلام، وربطها برؤية استراتيجية تنموية تعيد الاعتبار لكل مكونات الفعل الفلسطيني.
آن الأوان للفصائل الأخرى أن تتحرك وتؤكد على دورها في تصويب عجلة الانقسام، وآن لها أن تستنفر وتستفز الشارع الفلسطيني من أجل تثبيت المصالحة، لأن هذه الأخيرة هي صمام أمان الشعب الفلسطيني، وبدون المصالحة فإننا حتماً نمضي في المجهول والضياع، ونقدم أجمل هدية للاحتلال بتفرقنا وتشتتنا.
آن الأوان للشيطان أن يرحل عن غزة، وآن الأوان للفلسطينيين أن يعيشوا حداً معقولاً من الحياة الآمنة، مشمولةً بالمستلزمات الأساسية، وآن الأوان أن تفكر "فتح" في لملمة جراحها وحل مشكلاتها بعيداً عن الانشقاق والتشرذم، ونحو صيانة الحقوق الوطنية والتدرب والتأهل لاستكمال المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الصهيوني.
[email protected]
أضف تعليق