عملية القدس التي استهدفت قبل أيام معهداً دينياً في القدس الغربية، من المرجح أنها ليست الأخيرة في سياق العنف والعدوان الإسرائيلي غير المبرر على المقدسات الإسلامية وعلى الفلسطينيين القاطنين هناك، بهدف ضغطهم نحو الترحيل القسري من مساكنهم.
كثيرون من انتقدوا تلك العملية ومعظمهم من الغرب، بدواعي أنها تحرض على صراع ديني بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تناسوا تماماً أن من ابتدأ هذه الأفعال حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة.
إسرائيل التي تستفيد من المستوطنين في ارتكاب أعمال قذرة، أطلقت يد هؤلاء حتى يعيثوا فساداً في القدس المحتلة، حتى أننا نسمع يومياً عن حوادث منظمة وغير منظمة تستهدف فلسطينيين، كما تستهدف ممتلكاتهم ومساكنهم.
من يسيطر على القدس هو إسرائيل، وهي تتحمل كامل المسؤولية عن تدهور الصراع إلى هذه المستوى الخطير، خصوصاً وأن لها مصلحة أساسية في الاستيلاء على كامل القدس واعتبارها العاصمة الموحدة لها، الأمر الذي يدعوها لاستباق ذلك بفرض وقائع على الأرض.
هذه الوقائع لها مؤشرات كثيرة، من بينها استقدام المستوطنين للإقامة في القدس الشرقية، وتضييق الخناق على المقدسيين في معيشتهم وفي أمنهم، أملاً في رحيلهم عن أراضيهم، إلى جانب مواصلة الحفريات تحت المسجد الأقصى والشروع في تهويد حقيقي تدريجي للمعالم الإسلامية والإطاحة بها.
لقد سعت إسرائيل منذ سنوات إلى تكريس الصراع الديني في فلسطين، ليس أدل على ذلك من مذبحة الحرم الإبراهيمي التي وقعت في عام 1994، وقام خلالها السفاح باروخ غولدشتاين بفتح النار على المصلين في المسجد الإبراهيمي.
هذه العملية التي جرت بتواطؤ المستوطنين والسلطات الإسرائيلية، أدت إلى تقسيم الحرم الإبراهيمي رسمياً إلى قسمين، واحد كبير وبنسبة 60% من المساحة الكلية للحرم يسيطر عليه اليهود بعد تحويله إلى كنيس، والثاني يصلي فيه المسلمون.
إسرائيل سواء ارتكب مستوطنوها حماقات بدوافع منها أو عكس ذلك، أم جاء رد الفعل الفلسطيني قوياً على أفعالها الشائنة، إسرائيل ماضية في مخططاتها التي تهدف إلى تغيير كافة المعالم الإسلامية في القدس المحتلة.
حتى يبرر للعالم أفعاله، قام نتنياهو باستثمار عملية القدس في تأكيد إدانته للقيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس الذي حمله مسؤولية العملية، وذهبت جوقة نتنياهو إلى رفع سقف التهديد ضد أبو مازن إلى حد المطالبة بضرورة دفعه الثمن ومعاقبته.
ليس ذلك فحسب، بل فرض نتنياهو وقائع جديدة على الأرض، من بينها زيادة عدد الحواجز في القدس، واستجلاب المزيد من جنود الاحتلال بدواعي تأمين الأماكن العامة اليهودية هناك، إلى جانب تسهيل حمل السلاح وزيادة عدد رخصه، وهدم منازل الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال.
وعلى الفور صادق الاحتلال على بناء 78 وحدة استيطانية في القدس الشرقية، وهذا القرار لا يتصل بكونه استجابة للتوتر الحاصل في القدس، بقدر ما أنه سياسة متبعة تؤكد على الهوية الإسرائيلية القائمة على البعد الديني وإلغاء الآخر.
لقد جاءت عملية القدس رداً على كل أشكال التعسف الإسرائيلي، ولم يكن من الممكن استفزاز الفلسطينيين بحملهم غصن الزيتون وسكوتهم عن حقوقهم، بينما المجتمع الدولي صامت، وبينما تواصل الولايات المتحدة ومن معها من الغرب والعرب التنديد والشجب لا أكثر.
نعم، إسرائيل هي أساس الصراع وصاحبة النكبة الفلسطينية وهي من يسعى بكل قوة لحرف مسار هذا الصراع وإضفاء البعد الديني عليه، وهذا يتضح يومياً للقاصي والداني، وعلى ما يبدو أن نتنياهو يسعى من هذه الفعلة إلى تقويض جهود السلطة للبحث في مستقبل القضية الفلسطينية على منبر الأمم المتحدة.
وزير الخارجية الألماني فرانك شتاينماير الذي استقبله الرئيس محمود عباس قبل عدة أيام في رام الله، حذر من تحول الصراع السياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى ديني، واعتبر أن المسافات بعيدة بين الطرفين لاستئناف المفاوضات.
يدرك وزير الخارجية الألماني مع نظرائه في الاتحاد الأوروبي، أن إسرائيل إن عاجلاً أم آجلاً ستقضي على مستقبل الدولتين، وأن استيطانها المكثف في الضفة الغربية والقدس تحديداً، من شأنه أن يفضي إلى بقاء الحال على ما هو عليه.
بقاء هذا الحال وتصعيبه أكثر، تجسده سياسات الاحتلال عبر استهدافها المباشر للفلسطينيين، شعباً وقيادةً، ذلك أن لا أحد كان يتصور أن ينال الرئيس عباس الذي يهتف بالسلام طوال الوقت، كل هذا النقد والشتم من جانب مختلف القيادات الإسرائيلية.
ولأن المجتمع الدولي صامت على "التصلب" الإسرائيلي واستيطانها المتصاعد، فإنه بسكوته يوفر للاحتلال الضوء الأخضر لمواصلة الزحف الاستيطاني والحرب الإسرائيلية على القدس والمقدسات الإسلامية، وإلا كيف يمكن تفسير موضوع رفض الاتحاد الأوروبي للاستيطان، مع رفضه بشدة فرض عقوبات على إسرائيل؟.
الحرب الإسرائيلية الشعواء على القدس قريبة في مجرياتها وفلسفتها من الحروب الصليبية التي استهدفت القدس والأراضي المقدسة قبل مئات السنين، والتي حملت دوافع دينية غرضها وقف ما تعتبره آنذاك التهديد الإسلامي والسيطرة على أهم معالمه.
من ذلك تلتجئ إسرائيل لشيطنة الجميع، السلطة الفلسطينية وقطاع غزة والضفة الغربية، وفي القلب منها القدس المحتلة، حتى تبرر لنفسها وللعالم حربها الدينية، فيما يساهم الفلسطينيون بانقسامهم وخلافهم الفضائحي من تعجيل تثبيت الوقائع الصهيونية.
وبينما تنسجم السياسة الإسرائيلية مع الميدان، من حيث التكالب الجمعي على تهويد القدس واعتبارها الساحة الأهم للصراع السياسي والديني، فإن الموقف الفلسطيني مشتت وغير موحد لجهة التصدي للسياسات العدوانية الصهيونية.
وفي الوقت الذي تنزف فيه القدس، يجري خلاف كبير بين الفرقاء الفلسطينيين بالتأكيد يؤثر على المشهد الفلسطيني عموماً، وهو خلاف متصاعد مع الأسف ينبغي أن لا يتطور وأن يجري تطويقه في إطار ما يحدث في القدس المحتلة.
إذا ظل صراع الأخوة يسير في هذا الدرب الانقسامي الخطير، دون وقفه والانتباه للمخططات الإسرائيلية، ودعم صمود الشعب الفلسطيني، والتأسيس لحركة شعبية جامعة لكافة أطياف الفعل الفلسطيني، فعلينا أن نتكيف من الآن فصاعداً مع احتمال اختفاء القدس عن خريطة فلسطين، كما هو الحال مع باقي الأراضي المحتلة.
[email protected]
أضف تعليق