أيام صعبة تمر بها القدس في الأشهر الأخيرة، تتمثل بالاحتكاكات المتصاعدة بين الفلسطينيين والقوات الأمنية الإسرائيلية، ارتفاع في نطاق أعمال الشغب، ولا سيما في باحات جبل الهيكل (المسجد الأقصى) ومحاولات المساس باليهود المتمثل في عمليات الدهس والطعن، والى جانب ذلك لا يمكننا التغاضي عن الاحتكاكات المتصاعدة بين اليهود المطالبين – وفي بعض الأحيان بطريقة استفزازية – بتطبيق حق الذهاب الى جبل الهيكل (الأقصى المبارك) وحق الصلاة فيه، وبين الفلسطينيين الذين يرون في ذلك تهديداً بتغيير الوضع القائم في المكان، ولكن الأغلبية العظمى من السكان الفلسطينيين في القدس مستاؤون من العنف وينتقدون بشكل واضح استخراج الحد الأقصى لمصالح السكان الإسرائيليين، من أجل ذلك فإن عدد المشاركين في أحداث الشغب والعنف يقتصر على بضعة مئات فقط، غير ان الأجواء في المدينة متوترة جداً والنار تهدد بالتصاعد والانتشار.

مقتل فتى عربي بأيدي يهود كرد على مقتل الفتيان الثلاثة في منطقة غوش عتصيون كان بمثابة محفز الشعلة الملتهبة التي أشعلت أبخرة الوقود في الأجواء المقدسية، أبخرة الوقود تلك هي، والى حد كبير، نتاج الثمار الفاسدة لخلفية سيكولوجية للتحريض الديني الممنهج من قبل السلطة الفلسطينية وقيادتها، سياسة السلطة هذه مدعومة من لدن جهات متطرفة ومحرضة من الحركة الاسلامية – الإقليم الشمالي في إسرائيل – التي تتعاون بطريقة أو بأخرى مع حماس التي تصطاد بدورها في المياه العكرة المقدسية لأسباب كثيرة، من بينها فشلها الذريع في أعقاب النتائج التي تمخضت عنها عملية "الجرف الصامد" والقضاء على محاولاتها لتوسيع دورها في الضفة الغربية؛ هذه الجهات تريد تحقيق الحد الأقصى المحتمل من التقلبات الدينية في القدس بهدف زعزعة الاستقرار في المدينة، وعلى الساحة الاسرائيلية الفلسطينية قاطبة، وكذلك تبتغي دعم مكانتها كلاعب أساسي فيها.

في واقع من اليأس وعدم وجود أفق سياسي فإن من الأسهل على تلك الجهات ان تحقق تلك الاحتمالية، ما عدا هذا ليس صحيحاً وغير ممكنا، التملص من عدم كبح جماح المحرضين اليهود من قبل القيادة الاسرائيلية ومن عدم ارسالها رسائل واضحة بالالتزام بإبقاء الوضع الراهن في القدس على حاله، والى جانب عدم إبداء الحساسية المطلوبة من كل ما يتعلق بالإعلان عن مشاريع البناء أو شراء العقارات في المناطق الحساسة من المدينة.

التحريض المنهجي المتواصل الذي تقوم به قيادة السلطة تؤلف سرداً فلسطينياً يشكل اقتناعاً ذاتياً عميقاً بشأن انعدام أي ارتباط يهودي بالقدس عموماً، وبجبل الهيكل (المسجد الأقصى) خصوصاً، وفيما يتعلق بنية اسرائيل الخاصة لتغيير الوضع القائم في جبل الهيكل (وهو على أي حال أمر غير مقبول على دوائر معينة على الساحة الفلسطينية) وطمس الحق الفلسطيني في المدينة بالتأكيد على هويتها اليهودية، لدرجة ان الفلسطينيين يلوحون بهذه الاتهامات بهدف شرعنة استراتيجية تحركاتهم السياسية الانفرادية، التي تشمل تدعيم نزع الشرعية عن اسرائيل وحشرها في الزاوية على مستوى المجتمع الدولي.

في المقابل يحاول محمود عباس ان يخفف من أعمال العنف ومنع تجاوز الحد الذي من شأنه ان يمثل خطراً على السلطة أيضاً، وتبذل أجهزة السلطة الفلسطينية جهوداً لمنع انتشار العنف في مناطق السلطة على أساس الفهم ان تطوراً من هذا القبيل قد يغير اتجاه العنف ضد السلطة وقيادتها، وهما اللتان لا تتمتعان أصلاً بقاعدة تأييد واسعة، وتوجه كهذا قد يبدو تدميريا للسلطة نفسها، القيادة الفلسطينية تتصرف إذاً بتوتر ما بين الالتزام بالخلفية السيكولوجية التي صممتها هي ومواصلة سماعها للتحريض ضد إسرائيل وخطواتها في القدس؛ الأمر الذي يدعم توجهها أيضاً على الساحة الدولية وبين الاهتمام بنجاتها من هكذا وضع، ويبدو ان قيادة السلطة تشعر بالثقة لقدرتها على التعامل مع هذا التوتر، ولكن هناك شك في قدرتها على مواصلة السيطرة على الشرنقة التي هجنتها إذا ما قررت ان تثور على صانعها.

في هذه المرحلة لا وجود لبنية تنظيمية نمطية حقيقية، فعلى الاطلاق لم يتبنّ أي تنظيم فلسطيني عمليات الدهس والطعن، أو قل لا وجود لطاقة دافعة في الشارع الفلسطيني للقيام بانتفاضة ثالثة، وما عدا ذلك فالنشاط متركز في الغالب في منطقة القدس، ورغم أحداث متفرقة في مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية) فلا يدور الحديث عن ظاهرة واسعة الانتشار أو مشاركين كثر في جميع مناطق السلطة، بالإمكان القول ان الوعي الجمعي الفلسطيني ما زال يعي عبر الانتفاضة الثانية التي كلفتهم ثمناً باهظاً جداً، اجتماعياً واقتصادياً، وأرجعتهم الى الوراء دون تحقيق أي انجاز سياسي، ومع ذلك من المهم القول انه وفي ظروف معينة فإن أعمال عنف عفوية منفردة تستطيع ان تتحول الى فيضان قد يجر الكثيرين، وان يصبح مسيرة منظمة أكثر منهجية بتحفيز من أجواء جماهيرية واحباط متزايد مدعم بالرغبة في الانتقام.

الشعور بانعدام الأمن ونمط الأحداث يقود السياسيين والقادة الكبار والمحللين والصحفيين الاسرائيليين الى تطبيق منطق معروف تجاه التطورات، استخدام مصطلح "الانتفاضة الثالثة" آخذ في الانتشار رغم ان عمليات الدهس والطعن نفذها مهاجمون ارتجاليون وبمبادرة شخصية منهم تأثراً بأجواء التوتر في القدس، وليس باسم تنظيم أو أحد ينتمي لتنظيم ولم تكن جزءاً من بنية تنظيمية أو تخطيط؛ هذا التوصيف للعمليات يتضمن عنصراً مضافاً الى عناصر أخرى تم ذكرها – تميز على الأقل الى الآن – بينها وبين الانتفاضات التي جرت في الأعوام 1987-1993، والأعوام 2000-2005، (رغم ان هاتين الانتفاضتين لم تتشابها في كثير من الأمور).

رغم ان استخدام المرحومة "انتفاضة" ينتظم ما يجري بطريقة منطقية واسهل للفهم، ولكن مهم ان نستشعر التأثير السلبي المحتمل استخدامه بحق الوعي الفلسطيني والاسرائيلي على حد سواء، الاستخدام المتكرر لهذا المصطلح "انتفاضة" من قبل المتحدثين الاسرائيليين والفلسطينيين من شأنه ان يحرك الدوافع الفلسطينية للنضال، وإطاره موجود وقائم في هذه الأثناء، وعلى ضوء ذلك فمن ناحية إسرائيل عنصر تعزيز المخاوف من نوايا قيادات الفلسطينيين الشعبية والمصطلح يتسرب أيضاً الى وعي قوى الأمن الفلسطينية المفتوحة مباشرة للاحتكاكات المتصاعدة على الساحة، والتطرق الى الأحداث على انها "انتفاضة" قد تجعلهم يضربون بيد من حديد المشاغبين ومنفذي العمليات، وعلى هذا الأساس فإن استخداماً متكرراً للمصطلح قد يصبح مثل نبوءة حققت ذاتها، والخطر قائم بسبب عدم توفر الثقة بين القيادتين الاسرائيلية والفلسطينية في واقع الجمود التام في العملية السياسية، وانعدام شرعية المتعاونين فإن الخروج الى التعاون الأمني – والذي تنتصب علامات استفهام كبيرة حول شرعيته – فإن الأحداث المحلية قد تتعقد وتتسبب بتصعيد في القدس وغيرها.

إسرائيل من ناحيتها لم تستخدم كل ما لديها من أجل منع اللهب المشتعل من التحول الى حريق هائل، عليها ان تعمل بالإصرار المطلوب لكي تخفض مستوى اللهيب، وكذلك استخدام القبضة الحديدية ضد الاستفزازيين والمحرضين اليهود، وكذلك ان تشدد قبضتها أكثر على مثيري الشغب العرب، وأيضاً عليها ان توضح أنها لا تنوي تغيير الوضع القائم في القدس، بالإضافة الى هذا فإن على القيادة الاسرائيلية ان تعمل على تنمية السكان الفلسطينيين في القدس، وتحسين ظروفهم المعيشية في كل ما يخص البنى التحتية والتعليم والعمل، وهو واجب سيادي وأخلاقي على حد سواء.

وفي الوقت الحالي فضروري ان نوضح للمجتمع الدولي انه ما دامت الخلفية السيكولوجية الفلسطينية المائلة الى الجمع بين معارضة الاعتراف بالحق اليهودي في القدس، وبين التحريض ضد نوايا اسرائيل في القدس وجبل الهيكل (الأقصى المبارك) فإلى الأبد ستظل هناك عناصر تبتغي زعزعة الترتيبات القائمة والتلاعب بالأمن، هؤلاء سيواصلون، وبغض النظر عن الجهود التي تبذلها اسرائيل لتحسين أوضاع السكان الفلسطينيين، والعكس هو الصحيح فإن العمل الدؤوب بهذا الاتجاه سيوسع من أساس شرعية استخدام اسرائيل للقبضة الحديدية ضد مثيري الشغب والإرهابيين، وسيكون هذا مركب مهم في جهود منع ارهاب بعض الأفراد وأحداث العنف أو "الانتفاضة الثالثة" أن تتحول، ومن دون ان يشعر الاسرائيليون والفلسطينيون الذين هم في غالبيتهم لا يريدون ذلك، تتحول من "خيال حقل" الى نبوءة تحقق ذاتها.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]