هل يمكن أن نعطي نسبة ولو تقريبية للعامل الذاتي/ الوطني في تقرير مسار ونتائج ما يجري من تغييرات انقلابية في عدد من البلدان العربية؟
كم تبلغ هذه النسبة في ليبيا مثلاً، وكم تبلغ في اليمن أو في العراق؟
هل نخطئ حين نتجرأ على الإجابة بأن النسبة متدنية جداً؟
الوضع في سورية لا يزال يشكل استثناء نسبياً على هذه النتيجة فما زال للعامل الوطني دوره ونسبته المؤثرة. أما إذا تجاوزنا العامل الذاتي/ الوطني الى العامل القومي، فإن الأمر لا يحتاج للجرأة للإجابة بأن النسبة هي اكثر تدنيا وربما تقترب من الصفر. الأمر لا يقتصر على كون العامل الخارجي، بغض النظر عن طبيعته وأهدافه، هو المقرر والحاسم في البلدان المعنية، بل يتعداه الى ان المكونات الداخلية في كل دولة/ وطن منها تلعب دورها بشكل مستقل عن المكونات الاخرى سواء في حال الصراع مع الأنظمة او في حال التصارع المحتدم فيما بينها.
فمن يتصدى للغزو الداعشي بالعراق مثلا ليس الوطنية العراقية الجامعة بقواها المختلفة، وإنما الاكراد والسنة والشيعة والعشائر، بوصف كل واحد منهم مكوناً مستقلاً بذاته وبعلاقاته مع العامل الخارجي.
وقد تختلف صورة الوضع في اليمن، في التفاصيل والانتماءات وطبيعة الولاءات، ولكنها لا تختلف بالجوهر عما هو قائم بالعراق، وكذلك الحال في ليبيا، والمعارضة السورية.
اللافت ان قوى الإسلام السياسي على اختلاف درجة ظلاميتها وتشددها هي التي تتصدر المشهد سواء في صراعها مع الانظمة او مع العسكر، او حال الاختلاف الذي يصل حد الاحتراب بين قواها المختلفة.
وتغيب عن المشهد تماما أي قوى ديموقراطية او وطنية عامة او قومية او يسارية، ويغيب اي دور لها. وقد يكون ذلك نتيجة لطغيان مد القوى الدينية او بسبب انخراط البعض من تلك القوى في تشكيلات القوى الدينية نفسها او تشكيلات سياسية أخرى، وفي مواقع وأدوار هامشية. الأمر إذن، يتخطى انفراط نظام الدولة الوطنية الى انفراط مكونات الدولة ذاتها على تنوع واختلاف مسبباته.
والأمر اذا ما اخذ الى مداه، يصب في مجرى السؤال الدائر الآن، هل انتهت صلاحية النظام الذي ارسته اتفاقية سايكس بيكو بعد الحرب العالمية الاولى واصبح بحاجة للاستبدال، أو إحداث تغييرات أساسية فيه؟ دون ان يعني ذلك ضرورة فرط كل مكون من مكوناته، بل يمكن الحفاظ على بعضها وترميم البعض الآخر، مع إعادة ترتيب لعلاقات الكل في نظام جديد.
لقد صمد نظام سايكس بيكو لمدة تقترب من مائة عام حتى الآن.
لم يكن ذلك الصمود بالأساس ناتجاً عن تماسك الوحدة المجتمعية وعن قوة ارادة العيش المشترك بين مكونات عديد البلدان الناشئة عنه، ولا لأن هذه المكونات، في اغلبها، عاشت تجربة تطور سياسي اقتصادي ثقافي اجتماعي أوجدت بين مكوناتها اللحمة المطلوبة وخلقت الوحدة المجتمعية، وانتجت تجربة ديموقراطية ومكتسبات مادية تستحق التوحد للدفاع عنها.
صمود نظام سايكس بيكو في مرحلته الأولى التي استمرت حتى بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية كان بسبب وجود القوى المؤسسة له بشكل استعماري مباشر وحاكم في دوله، وبالتالي كانت ضامنا له. أما في مرحلته الثانية، اي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتشكل واستقرار النظام العالمي ثنائي القطبية فجاء استقراره في مناخ الحرب الباردة نتيجة توافق، وربما اتفاق، بين الدول الأساسية في النظام العالمي الجديد بقبول التغيير داخل حدود الدولة الواحدة ومنعه في جغرافية وحدود مكونات/ دول النظام.
وفعلاً، فقد انحصرت محاولات التغيير التي حصلت في بعض المكونات، بغض النظر عن الشكل الذي اتخذته والوسائل التي استعملتها والنجاحات التي حققتها، في حدود الكيان السياسي المحدد، ودونما حتى محاولة لتخطي تلك الحدود.
الاستثناء الوحيد كان في الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية التي لم تعمّر اكثر من ثلاث سنوات حتى نجح نظام سايكس بيكو في إنهائها وإعادة الأمور فيه الى استقرارها وثباتها.
حتى المتغير الدراماتيكي الذي تمثل في قيام دولة الاحتلال الصهيوني بكل إبعاده ومعانيه وبكونه كياناً غريباً عن نسيج كل مكونات نظام سايكس بيكو، لم يؤد - خارج حدود زرعه ككيان غريب - الى زعزعة النظام بجدية، ناهيك عن فرطه والتغيير في خريطة جغرافيته. ولا أدّت الى ذلك، حرب 1967 والهزيمة القاسية التي ألحقتها بالكيان السياسي الأكبر- دولة مصر- ثم دولة سورية وبدرجة اقل دولة العراق، ولا غيرها من النزاعات والصراعات والمغامرات العديدة التي حصلت في العديد من مكوناته / دوله، او فيما بينها.
ان احداث تغييرات أساسية بالنظام او استبداله كما تمت الاشارة، تبدو أكثر ضرورة للقوى العالمية - الغربية وحلفائها - مما هي لمكونات/ دول النظام نفسه. اولا واساسا لنشوء ضرورات لدى تلك القوى العالمية تتعلق بالحفاظ على مصالحها بالمنطقة، وتتعلق بنظرتها الشمولية للمتغيرات المستجدة والكبيرة على المستوى العالمي، واستراتيجيتها الكونية للتعامل معها. ثم لقناعتها ان نظام سايكس بيكو والأوضاع الداخلية لمكوناته لم يعد مفيداً لها بقاؤها على حالها، لذلك فهي التي تلعب الدور الحاسم والمقرر في محاولات التغيير الحاصلة.
وبغض النظر عن كون الدول الغربية وحلفائها خططت، او لم تخطط، لما حصل ويحصل في العديد من مكونات/ دول سايكس بيكو، فإنها تحاول تجييره وتوجيهه في اتجاه التغيير الذي تسعى لإحداثه. دون ان نغفل للحظة وجود مصالح وحسابات خارجية أخرى نقيضة، وتعقيدات داخلية تجعل التغيير عملية صعبة ومعقدة، وقدرة السيطرة على مسارها ونتائجها غير مضمونة. ودون ان نسقط من الحساب قبل ذلك، امكانية صحوة وطنية محلية وتداخلات إقليمية تعيد خلط الأوراق وتدفع الأحداث باتجاه يختلف، وربما يتناقض، مع ما تخطط له القوى الغربية.
[email protected]
أضف تعليق