مرة أخرى، تعلن الحرب على الإرهاب. في المرة الأولى، منحت «القاعدة» في غزوة «11 أيلول» الولايات المتحدة الأميركية فرصة الانتقام منها في أفغانستان، من دون الانتصار على الإرهاب، وقدمت لها الذريعة لتدمير العراق وتفتيته وتأمين الأرضية الصالحة لنمو الإرهاب وانتشاره فيه، وتأسيس بذور «الدولة الإسلامية» بقيادة الزرقاوي.
مرة أخرى، تقود الولايات المتحدة الأميركية حرباً لا تكبدها خسائر، ضد الإرهاب، إنما بطلب واستدعاء واستغاثات عربية: «أنقذونا» من برابرة «الدولة الإسلامية» الزاحفة على كل الجبهات.
حصة أميركا من دعم حركات «الجهاد الإسلامي» في أفغانستان لمحاربة العدو السوفياتي الملحد، وتوظيفها «للعنف الإسلامي» في معارك الدول والمناطق الخارجة من الطوق السوفياتي، بل وحمايتها ورعايتها أحياناً، أفضت إلى إشاعة الإرهاب في مناطق رخوة ورجراجة وغير مستقرة.
أما حصة العرب في توفير الفرص الذهبية لنمو التطرف الديني والطائفي والمذهبي والعرقي، فهي الحصة الكبرى. أنظمة الديكتاتورية والملكية والاستبدادية هي الأب العاق، لهذه الذرية الجهادية البربرية. لقد أنجبت أنظمة العرب أجيالاً من الإحباط وانعدام الأمل وفقدان الكرامة والجدوى. أنظمة تفوّقت في جعل المواطنين حقول رماية وتكديس للضحايا. أنظمة بربرية افترست القضايا برمّتها، قضت على الحرية، سفكت العدالة، أهانت الكرامة، أذلّت الإنسان، استعبدت الأحرار، ظلمت الأبرياء، سرقت الفقراء، منعت العقل وحرّمت التفكير، شكلت رجال السلطة في أعتى عصابات المال والأمن ومستشاري التدخل السريع الغربيين. أنظمة أمعنت في نفي المواطن وتجويف الأمة من أدمغتها وتوزيع «المغانم» الوطنية على باعة الوطن. أنظمة وُهِبت ثروة نفطية، فحرمت شعوبها منها ونقلتها إلى مصارف وشركات الغرب... أنظمة، بهذا الاستهتار والانحطاط، لا يمكن إلا أن تنجب سلالات من العنف والإرهاب، بعد عقود من القهر والقمع والوأد.
هذا الوحش الإرهابي، هو الوجه الآخر لتوحش الأنظمة العربية الاستبدادية، التي انتصرت فقط على شعوبها وخسرت معاركها وحروبها كلها. تلك التي كانت ضد أعداء الأمة، أو تلك التي حصلت بين «الإخوة الأعداء»، داخل التخوم.
كانت أميركا قد انصرفت بعد حروب بوش الابن والمحافظين الجدد، عن ممارسة السياسة بالمعارك العسكرية. أوباما سحب جيوشه من العراق واستعد لترك أفغانستان في الزمن المحدد لها، مخلّفاً تركة أميركية ثقيلة: عنف، مذاهب، طوائف، أقوام، أعراف، حكومات «توافقية» وقيادات كرتونية، أشد سوءاً وفساداً وظلماً من تلك التي جاء الأميركيون للتخلص منها.
لم يكن أوباما في وارد التدخل العسكري وشن حروب جديدة. وعد الشعب الأميركي ووفى بوعده. غير أن نداءات الاستغاثة العربية، من خصوم أميركا ومن أبنائها المدللين، إضافة إلى استشعار الخطر الحقيقي لـ«داعش» على المنطقة، بل على العالم، وفرت لسيد البيت الأبيض الفرصة لتنفيذ سياسات ديك تشيني، أحد صقور «الحرب على الإرهاب» بعد 11 أيلول، الداعية لإعلان حرب جديدة على الإرهاب المستجد.
هل «داعش» بهذا الحجم من المخاطر؟
من يقلل من حجم ووزن «داعش»، مشتبه بالتأكيد. ليس أبلغ من الوقائع. هي الكلام الفصل، قبل كل كلام وبعد كل كلام. «داعش»، دولة إقليمية عظمى، على الأرض، أطاحت ثوابت مكرّسة منذ نهاية الخلافة الإسلامية على يد كمال أتاتورك. اجتاحت دولاً، هزمت جيوشاً، أبادت جماعات، هجّرت أقواماً، حاربت وفازت على جيوش مليونية، وانتشرت في «لمحة زمن» من حدود إيران إلى حدود تركيا والسعودية والأردن وأخيراً حدود لبنان.
«الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وفق ما جاء في النصوص التأسيسية «للقاعدة» والتي رسمت فيها استراتيجيتها الدولية، هي بصدد إنشاء نظام عالمي جديد، قاعدته دولة الخلافة الإسلامية، ونواتها الأولى، في العراق وبلاد الشام أولاً.
فـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام» ليست طفرة مفاجئة، ولن تكون حدثاً عابراً ومنسياً. قد تفشل وتسقط، وهذا ما نعوّل عليه، بواسطة «الأعداء دائماً والأصدقاء راهناً». الدولة هذه، ما أتت من عدم وما جاءت من صدفة ولا كانت رد فعل نزقاً ثورياً على الأنظمة. هي حركة إسلامية أصولية، ذات جذور في التراث، وتجد أرضيتها في النصوص الدينية التي أخذت من مصادرها وقُرئت بأدوات فهم نصية منتزعة من تاريخها وظروفها وأسباب نزولها. ووفرت هذه الحركة لنفسها سنداً مرجعياً من التجارب الإسلامية المتصلة بأحداث ما بعد الهجرة من مكة إلى يثرب، ومن صراعات المسلمين الأوائل مع «الآخرين» في المدينة المنوّرة. مرجعيتها هذه، تشكل سنداً لفهم التاريخ الإسلامي، بطريقة أخرى، مفادها أن التقليد حتمي، والانتصار وافر، لأن مثل هذا حدث مع الرسول، ومع خليفته أبي بكر. فالإسلام الأول أقام نظاماً عالمياً، أبعد من إقليمه بكثير، رعته إمبراطورية عربية، استطاعت أن تقضي على إمبراطورية فارسية طاعنة في الحضارة، وأن تدفع الامبراطورية البيزنطية إلى حدودها الأولى. «داعش» بصدد تقليد هذا الأصل: إقامة نظام عالمي إسلامي، على أنقاض أنظمة (تشبه القبائل العربية القديمة) وعلى أنقاض قوى عظمى متهالكة، ويمكن أن تصل إليها أذرع «القاعدة» المنتشرة، في القارات كلها.
العالم المزدحم اليوم لمواجهة «داعش» في حرب مديدة، سيجد أمامه دولة خلافة إسلامية واقعية، بشرعية ما تملكه من قوة ميدانية، وبيئة حاضنة، وعقيدة مصطفاة ومنتقاة من نصوص قرآنية تناسبها وأحاديث وسنة نبويتين مختارة، لتناسبها مع حاجات «التنظيم» و«الدولة»، وهو ما يبرر اللجوء إلى العنف والتطرف والتوحش.
كأننا اليوم على عتبة النهايات: نهاية دول سايكس ـ بيكو، نهاية النظام الإقليمي العربي، نهاية المجتمعات العربية التي كانت على عافية وطنية، نهاية الأوطان الموعودة، نهاية الجيوش العربية (هل كانت جيوشاً؟) نهاية ثقافة الوعي والتنوير والنقد، نهاية الانتماءات النبيلة المختارة، نهاية القضايا الكبرى، (وحدة، حرية، عدالة، كرامة، ديموقراطية، نخبة) نهاية الأنظمة (غير مأسوف عليها)، نهاية...
ولكننا لسنا على عتبة البدايات الجديدة. ما ينتظر العرب، الكثير من الدماء والعظيم من الركام... والمجهول الذي ترسم معالمه «القوة الأميركية»، صاحبة الفشل الذريع في حروبها وما بعد حروبها.
قد تسفر الحرب الطويلة عن تحجيم «داعش» أو تحطيمه، لكن من سيكون المنتصر؟ هؤلاء الذين يحاربونها؟
إنها لنهاية وخيمة.
[email protected]
أضف تعليق