لم أجرؤ منذ اعلان استشهاد الجندي عباس مدلج على الاتصال بصديقي احمد، لأعرف منه إن كان الشهيد قريبه، فأقدم إليه واجب العزاء. لم استطع. لا يزال غضبي كبيرا واكبر من أن استطيع التفوه بكلام عزاء تافه. لم اجرؤ على الاتصال، تماما كما لم اجرؤ على النظر في المرآة لأرى ان كنت ما زلت هنا. كأنّ شيئا لم يحصل. ماء مقطوع. عادي. كهرباء مقطوعة. عادي. رؤوس مقطوعة. عادي. نستأنف حياتنا مع احساس بحرقة اسفل الرقبة.. عادي.

نجحت داعش في الدخول الي غرفة نومي. افكر في عباس وفي علي وفي من ينتظر كخراف العيد ان يذبح حين يؤون الاوان. رأيت في نومي امس الغول. غول حكايات الطفولة، لكنه لم يكن كما كانت جدتي تصفه، بشعر من حبال الليف وعين واحدة في جبينه واسنان كالسيوف وذنب يهد الجبال! كان... لرعبي، عاديا. بشريا مثلنا تماما.

استيقظ مفزوعة. الدقائق اللازمة لاجتياز المسافة بين الحلم واليقظة، للهروب من الكابوس، جعلتني افيق تماما. الساعة الثالثة بعد منتصف الليل. اخرج الي الشرفة المطلة على المستشفى العسكري المقابل، ومداخل الثكنة الملاصقة. سكون تام.. تحول المكان منذ فترة الى مربع امني باجراءات متشددة فوق العادة. سواتر الباطون المحيطة بالمستشفى والثكنة انتشرت على شكل حزام باطوني. تغيرت اتجاهات السير للدواعي الامنية نفسها. واخيرا، اضيفت اسلاك شائكة الي مداخل الشارع فاقفل تماما. من هنا، من شرفتي. ارى الى الجندي الواقف في هدأة الليل، متأبطا بندقيته. كان الشارع ساكنا تماما. تماما كما كان خلال النهار. النهار الذي اشرق على الجندي مدلج بدون رأس. الشارع العسكري كان هادئا وساكنا. خليط من وجوم الذهول.. وربما حزن العجز!

الآن الرابعة صباحا، يقف الجندي وحيدا في سكون الليل تحت مصباح البلدية الضعيف الاصفر.. يقف، يدخن سيجارة، ثم يتمشى قليلاً ويعود إلى مكانه تحت مصباح البلدية. تنقطع الكهرباء. يدعس بقدمه عقب سيجارته، واسمعه من هنا يتنهد.

كيف يمضي الليل على اهالي المخطوفين؟ كيف ينامون وهم غير قادرين على مفارقة شريط الاخبار العاجلة؟ كيف يمضي النهار وهم يتنقلون بين الكلمات الغاضبة والمواقف العاجزة وميوعة الطبقة السياسية وجبنها وتواطؤ بعضها؟

ارفض تصديق هذا الدرك من العجز. لا افهم. اقصد الزملاء المتخصصين فيقولون كلاما مرعبا عن ان المشهد سيواظب على تكرار نفسه امامنا حتي يقتل آخر المخطوفين!

يكاد يجن جنوني. شيء في تكويني يمنعني من تصديق ذلك: كيف من الممكن ان يساق جنودنا هكذا الى الذبح، بدون اي فعل؟

كيف ينام المخطوفون؟ بعين واحدة خوفا من ان توقظهم سكين المجرمين؟ ام ملء الجفون لانهم عاجزون مثلنا؟ حاول الشهيد عباس مدلج الهرب وتخليص نفسه وتخليص زملائه كما فهمنا .. رفض ان يساق الى الذبح كخروف العيد. قتل صحيح. لكنه حفظ كرامته البشرية. قاوم.
اجتاز حاجز الغضب. تراودني مشاعر الانتقام. لاول مرة افهم كيف ان العجز عن منع الجريمة يوصل الى درب الانتقام. المنتقم مصاب في قلبه وعقله. وهنا الخطر. خطر لم اتاخر عن الوقوع في فخاخه.

لم لا نحاصر سجن رومية؟ قلت في نفسي. كتبت ذلك ايضا على صفحة الفايسبوك. داعش طالبت بلائحة من مجرميها الملقى القبض عليهم. يعني مفخخي السيارات و«قتالين القتلى» الى الذباحين الخ.. . حسنا، لدينا سجناء ثابت انهم «شغيلة» عند «داعش»، وانهم ارتكبوا آثاما كثيرة، لكن، الا يكفي هذا للمطالبة.. بشنقهم؟ مجرد مطالبة. لا اتكلم عن اولئك الاسلاميين الذين لم يحاكموا بعد. يا الهي! اني ضائعة.. هي المرة الاولى في حياتي التي اقول فيها كلاما كهذا، وانا خائفة من نفسي. اعترف. لكنني لا اجد مفرا من هذا التفكير. فانسانيتي تمنعني من ان اكون مع الاعدام كعقوبة. لكن، يبدو ان الانسانية مضرة بصحة الانسان احيانا، وخاصة، حين لا تكون هناك دولة قادرة على حماية اولادها، وبالمقابل اصبحت شريعة الغاب تحكم بلادنا ومصائرنا. اليوم، ثابت انه لا دولة الا .. داعش! أطل على صفحة الفايسبوك وارتعب لعدد «اللايكات» التي ذيلت الستاتوس الذي نشرته منذ قليل.

واضح ان الجميع يسأل السؤال نفسه: ما قيمة الانسانية، كموقف، ان كانت ستحرمنا فرصة انقاذ حياة انسان بريء؟ هل الانسانية ضد الانسان؟ ماذا نفعل؟ ان كان الجيش عاجزا عن اتخاذ الخطوة بنفسه، والحكومة ترتجف. لمَ لا يتوجه اهالي العسكريين الاسرى الى رومية ويحاصرونه مطالبين بشنق اسرى «داعش» الثابتة جرائمهم؟ مطالبة واعتصام على الاقل. نوع من ضغط مقابل ضغط..

هل هناك من حل آخر؟ ارجوكم ساعدوني..

لسنا من بدأ لعبة الابتزاز بالدم: على نفسها جنت براقش. او داعش ...لا فرق. لكن الثابت، اننا جميعاً، سنكون ضحايا داعش التي لن تذكرها نشرات الأخبار.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]