جئنا لنودعك، فوجدناك في الباب تستقبلنا، ترحب بوفود الزاحفين من كل انحاء الوطن، تعتذر لمن اضطروا لقطع اجازاتهم كي يأتوك مودعين، تقول لنا: أنا ما مت يا رفاقي.. بل هي ساعة سفر..
جئنا لنودعك، فكنت أنت الذي يودعنا، وكأنك تقول: باق هنا أنا، في أحضان الجرمق الشامخ، وانتم الراحلون..
يا أبا وطن.. كنت كما عهدناك، تصر على اكتمال المشهد فلا تنسى حتى الأمور الصغيرة.. كنت تعرف أنك تتحدى هذا الوحش السرطاني كما تحديت زنازين الوحش البشري.. كنت تعرف أن الموت سيأخذك، واعلنت أنك لا تحبه، لكنك لا تخاف منه، وكيف تخاف وأنت الذي خافت منك دولة بجيشها يوم هدر صوتك في وجه دباباتها ومجنزراتها وقاصفاتها: تقدموا.. فسماؤكم جهنم وأرضكم جهنم..
أعددت مراسم الجنازة ولملمت شظايا الوطن العربي من نقب الى مثلث فجليل فقدس وجولان.. وكلهم جاؤوا ليحملوا نعشك الذي حملته طويلاً.. فلا تنحني هامتك لأنها الحجر الأخير في مدماك الشموخ..
ولأنك تحرص على اعداد الأشياء كلها.. لم تنس حتى اعداد خطابك الأخير.. خطاب الترحيب بالآتين الى عرس استشهادك على نبض القصيدة..
كان نعشك يرتاح فوق بساط العشب الأخضر.. وكان يحتضن جسدك.. لكن روحك غادرته وحلقت في سماء الجليل، تشرف على اكتمال المشهد.. وعلى أوتار سيمفونيتك الأسطورية كانت أصابعك تعزف آخر الكلمات...
كان هناك الشعراء والأدباء ورجال الدين والسياسة والصحافة وعامة الشعب الذي بادلته الحب الأعظم، رجال عاهدوك، ونساء ثكلن زينة الحياة من بعدك.. والكل يريد وداعك، لكن من يجرؤ على وداعك وانت الواقف في الباب تقول لهم، لنا، لمن استنسخوا هذا العرس في بيروت وعمان وتونس وموسكو: أنا لم أمت، فامسحوا دموعكم وانهضوا.. وواصلوا الطريق..
كنت آخرهم.. فرسان المقاومة.. فما بقي منهم أحد يرثي الفارس الأخير بقصيدة، او كلمات تجاريك.. تنافس الخطباء في رسم الكلمات، لكنهم ما تجاوزوا عتبة قصيدتك التي كانت روحك تنشدها على مسامعنا.. فنراك تخرج من الصور المعلقة على الجدران وتصافحنا فردا، فردا، لا تكل ولا تمل، ولا يهزمك الوحش.. تعتذر لأنك جعلتنا نأتيك.. فهل لم تعلم أن كل واحد وكل واحدة ممن جاؤوك كان يتمنى لو ينتزعك من موتك ويعلن رفض استشهادك لأنك انت الذي رسمت لنا لحظة الولادة.
لم تمت يا رفيقي... لم ترحل.. ذاك الجسد الفاني هو الذي تعب من هذه الدنيا واختار الفناء على الحياة.. أما روحك أنت.. ابتسامتك التي تحدت الموت.. كما تحدت بطش الحكام العسكريين وضباط التجنيد والسجانين، كانت ترتسم هناك على الوجوه فتنزع منها صور الحزن، لأنك تكره الحزن وما سمحت له بالوصول الى وجهك حتى حين غيبك الموت...
يا أبا الوطن، صغير أنا على مجاراة حروفك.. فلست إلا راسم كلمات تنبض بها روحي.. لكني أعرف أن روحي تعلمت من روحك معاني الجرأة والتحدي وقول كلمة الحق على رؤوس الأشهاد، ولذلك من بعد الاستئذان من روحك، اسمح لي تفويض نفسي قول كلمة الحق الوحيدة: إنك باختيارك الانتقال الى عالم الخلود، تركتنا أيتاما نشتهي من بعدك ارتسام المقاومة في قصيدة...
[email protected]
أضف تعليق