قبل أن تصمت الصواريخ والقذائف وما كادت تصمت ولم تنته بعد المعركة، حتى بدأت التحليلات عربيّة وإسرائيليّة تقذف حممها على رؤوسنا عن المنتصر في هذه الحرب، وكلّ يدّعي انتصارا. الانتصار في المعارك ليس كما الانتصار في الحروب إذ أن المعارك ليس بالضرورة حسما وفي الحروب عادة ما يكون حسمّ، والنصر والهزيمة فيهما نسبيّان وعادة تُقرر معايريهما طبقا للأهداف التي وضعها كل طرف والنتائج، ولكن يظل هذا انتصارا آنيّا لا يغيّر في المعادلة الأساسيّة.

موضوعيّا، وحسب وجهة نظري، الانتصار في المواجهات بين البشر عسكرية حضارية أو ثقافيّة كانت، هو الانتصار على "الوعي السائد" الذي عادة ما يولد من اعتقاد يسود عند المجتمعات المختلفة والمتواجهة منها. الوعي السائد اليوم أن صراعا على أوجه الحياة المختلفة يدور بين الشمال الغني وإسرائيل جزء منه، والجنوب الفقير والعرب والمسلمون في طليعته، بعد أن خلت الساحة للغرب من الصراع مع الشرق بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.

رأى البعض وأشهرهم "هنتنغتون" أن الصراع هو صراع حضارات، وواجهت نظريته الكثير من الجدل وراح البعض يدحض النظرية بوضع هذا الصراع في سياق تاريخي اقتصاديّ بحكم الجيرة التي تخلق تناقضا في المصالح، فشهد هذا الصراع مراحل صعود وهبوط، صعود شرقيّ قابله هبوط غربيّ والعكس بغض النظر عن حضارة كل منهما.

في سياقنا، إن تكاليف الساعات الفضائية التي تمطرنا بها محطات التلفزة تعليقا على وتحليلا للعدوان الواقع على غزّة، ربما تزيد بكثير عن تكاليف الصواريخ والقذائف التي أطلقتها حماس وإسرائيل معا، وهي مثلها تماما تصيب أحيانا وتخطئ أخرى، ومثلما تمزق هذه أجساد أبرياء أحيانا تمزق تلك عقول أبرياء أحيانا، خصوصا عندما يحسب مطلقها أن قوله آيات منزلة من عند الله وكل ما يقوله الآخرون هو الكفر بعينه.

دعونا نتفق أن آراءنا، فيما لا نعرفه بإحدى حواسنا، تبقى اجتهادات، ومهما آمنا ب-"عبقريتها" لا يجعل ذلك منها محور أحداث الدنيا، صحة هذه الاجتهادات أو عدمها هو للأيام، لذلك دعونا نعطي الرأي الآخر، حتى لو لم
يعجبنا، مكانا دون أن ننسب لصاحبه انحرافا عن سواء السبيل، اللهم إلا أولئك الذين "يتأدبون"
على موائد البترودولار.

لا يستطيع المرء أن يقول أو يكتب أو ينشر كل ما يجول بخاطره، خصوصا إذا كان ذلك خارجا عن الإجماع، حتى الشعبوي منه، في بعضه أو في كله خوفا من اتهامه بالانحراف الآنف. وفي سياقنا ما يجول بالخاطر عن اختلاف الرؤية في أهداف طرفي القتال، علما أن الهدف الحقيقي لا يقال أبدا، والأقرب إلى الحقيقة هو ليس ما يقال، إنما في مكان ما وراء ما يقال، يستنبطه الكاتب أو القائل الواقعيان من الأقرب إلى المعقول لا إلى العاطفة أو الرأي المسبق المتماثل مع الموقف أو الحدث، فبين التماثل والتأييد مسافة شاسعة.

الأهداف الحقيقية لهذه الحرب هي أعمق كثيرا مما يقال، أهدافها تدور على "وعي سائد " لدى طرفيها في طريق تحقيق ما يدّعيه أنه حقّه، وكل ما عدا ذلك ثانوي وصراع على رأي عام مفقود في الكثير من الأحيان خصوصا حيث تغيب الديموقراطيّة.

بغض النظر عن هذه المقدمة، ما يشغل بال الكل اليوم ساسة ومفكرين وأناس عاديين ونحن منهم، كيف سينتهي هذا العدوان وبكلمات أخرى من الذي سيكسب منه وماذا سيكسب والكسب دائما نسبي؟
الرابح في هذه الحرب ليس الذي يقتل أكثر ويدمر أكثر ويحتل أكثر، الرابح هو الذي يستطيع أن يدعي لاحقا ويثبت ادعاءه بالوقائع أنه غيّر شيئا في "الوعي السائد" في معسكره وفي معسكر عدوه.

ومن التعميم إلى التخصيص، الوعي السائد لدى المجتمع الإسرائيلي وبكل مركباته ومنذ ما يزيد على قرن منذ بدء الصراع العربي اليهودي، أن العرب والمسلمين لم يسلموا ولن يسلموا بوجود اليهود هنا ككيان سياسيّ، والطريقة الوحيدة التي يفهمون هي لغة القوة ولذلك على إسرائيل أن تبقى قوية ساحقة ماحقة كسبيل وحيد لجعلهم يقبلون بوجودها أو على الأقل ليسلموا بوجودها. ومن نافل القول أن يقال أن الولايات المتحدة والغرب كله سندها في ذلك. ومن تبعات هذا الوعي السائد لديها هو الاعتداء الدائم على حقوق جيرانها حتى المنقوصة منها إن كان ذلك في فلسطين أو هضبة الجولان أو مزارع شبعة.

أما الوعي السائد لدى طرف المعادلة الآخر هو فعلا ليس قبول الوجود إنما التسليم بالوجود إلى أن "يفرجها الله"، وأي كلام آخر هو "دبلوماسية" الأضعف غير الماسك بزمام الأمور من مفكرين وساسة ومن الناس العاديين بكل مركباتهم، أو "دبلوماسية" المصالح للماسك بزمام الأمور من الحكام ومن لف لفهم، في المرحلة البينية هذه ينتج عن هذا الوعي السائد العام وعي خاص آخر أقل مرتبة.

جاء إقدام وإصرار حماس وبقيّة فصائل المقاومة على مواجهة إسرائيل عسكريّا، ليقوض أسسا تحت هذا الوعي الخاص الذي ساد لدى الطرفين، وخصوصا تحت أسس الوعي السائد لدى إسرائيل والذي اعتقدت وتعتقد أنها رسخته بقوتها التي لا تقهر مسلطه على رقاب الطرف الآخر الذي بات لا يجرؤ أن يرفع حتى نظره فيها وإلا بها تجد من تجرأ.

على ضوء ما تبع هذا الإقدام من مواقف وبالذات عربية، اعتبرت إسرائيل أن الأمر لا يتعدى المشكلة العرضية التي تواجه وجوديّتها، وبإظهارها بعض من عضلاتها ستعود المياه إلى مجاريها لكن "العتمة لم تأت على قدر يد الحرامي".

رغم ذلك يظل الانتصار في هذا العدوان رهينة الوعي الذي سيسود بعدها، إذا غير هذا العدوان والتصدّي له الوعي السائد لدى الجانب الإسرائيلي أن القوة المعتمدة على أن الجانب الآخر لا يفهم إلا إياها وسيلة، إذا غير هذا الوعي بوعي مفاده أن ليست هذه الطريق لاستمرار وجودها، فهذا انتصار مدو لنهج المقاومة لدى الطرف الأضعف في ميزان القوى، لن تسلم به إسرائيل بهذه السهولة لكن يكفي أن يسود لديها وعي ولو باطنيا ينتج عنه الاعتراف بحقوق العرب المبلوعة على يديها ولو بعد حين. وإذا غير هذا العدوان الوعي السائد لدى الطرف الآخر بالتسليم بالتفريط بالحقوق تحت مطرقة القوة فهذا تتمة للانتصار. أما إذا بقي الوعي السائد لدى الطرفين على حاله ستكون حينها الأرواح التي زهقت راحت سدى.

المفاوضات الدائرة اليوم في القاهرة والتي دارت سابقا هي منطلقة من هذا الوعي السائد بشقيّه، العام والخاص ولذلك كل يريد منها انتصارا، ولكن الخطر الأكبر يكمن في أن المفاوضات على ما يرشح تدور حول غزة وكأنها وحدة مستقلة وحول الحصار عليها وكأن القضيّة مختزلة في ذلك، فهل المقاومة في غزة وبكل مركباتها خرجت إلى الحرب فقط رفعا للحصار؟!
أليست غزّة جزء من قضيّة فأين هذه القضيّة على طاولة المفاوضات ؟
وهل إذا وجد المتفاوضون صيغة يتفقون عليها وفي صلبها رُفع الحصار عن غزّة ينتهي الأمر ويعلن الانتصار؟

هذا الوعي السائد اهتزت كل أركانه على يد حزب الله في حرب تموز 2006 وتغيّرت فيه مفاهيم كان ممكن أن تؤدي إلى نتائج بعيدة المدى على قضية العرب الأساس، القضيّة الفلسطينيّة، غير أن "ربيعنا العربيّ !" قتل الانجاز الذي تحقق، ولكن ها نراه يعود اليوم ليهتز وبقوة وبنفس قواعد حرب حزب الله، وفي أيدي العرب والمقاومة أن يحفظوه أو يفرطوا به لقاء انتصار وهميّ.

أنا وبصفتي طرف غير محايد أميل إلى الاعتقاد أن هذه العدوان أعاد هزّ هذا الوعي السائد بشدّة وبعد أن أنقذه من اهتزازه في ال-2006 "ربيعنا العربيّ" . ولكن قلع هذا الوعي من الجذور يعتمد على النتائج التي ستخرج من هذه الحرب الأخيرة ومفاوضاتها وأبعادها على قضيتنا المركزيّة، هذه النتائج وإن بعد تحقيقها، عند حصوله سنستطيع أن نقرر من الذي انتصر ومن الذي انهزم ! 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]