في السويد، جلس يأكل وجبة خفيفة، ليفاجأ بمنظر طفلة تجمع الأكواب من الطاولة. تساءل: كيف تقبل دولةٌ مثلُ السويد بتشغيل الأطفال؟ سأل صاحب المحل، ليكتشف أن تلك الطفلة، ذات الثمانِ سنوات، تقضي فترة تدريبية، كما تنص على ذلك اتفاقية تجمع البلدية ومدارسَ المنطقة، لكي يندمج الأطفال في محيط العمل منذ صغرهم، وفي مختلف المهن.

في بلدان متطورة أخرى كألمانيا واليابان والولايات المتحدة، يتم غرس العمل كقيمة جوهرية في حياة التلميذ والطالب منذ الصغر.

الآن، لنتأمل مجتمعنا: أن يشتغل تلميذ أو طالب خلال فترات العطل هو أمر يتحرج منه الكثيرون، لأنه سيُتَرْجَمُ بكونهم فقراءَ محتاجين للمال. هناك أيضا مهن كثيرة نخجل منها ومن ممارستها، كما يخجل منها أبناء ممارسيها: عامل النظافة، العاملة المنزلية، حارس العمارة، نادل المقهى، ماسح الأحذية... وغيرها.

نحن نحتاج لهذه المهن، لكننا نحتقر من يمارسها.

بالمقابل، حين يستطيع شخصٌ الاغتناءَ بسرعة، ولو بطرق غير مشروعة؛ أو حين يحصل شخصٌ على هبة أو مؤذونية نقل أو غيرها من العطايا، فالكثيرون ينظرون له بإعجاب، وببعض الحسد حتى.

القيمة المالية أهم شأنا في مجتمعنا من قيمة العمل، الجِد، الاجتهاد... الشخص الذي يشتغل كثيرا نعتبره غبيا مستغَلّا، الطالب الذي يشتغل خلال العطل يخجل من الاعتراف بذلك أمام أصدقائه؛ والمتهاون الذي يربح بسهولة، نُمجده.

هذه بالتأكيد مشكلة اختيارات استراتيجية للحكومات المتعاقبة. لو كان الحد الأدنى من العيش الكريم متوفرا لكل المواطنين، بمن فيهم أصحاب هذه المهن، لما كنا لنخجل منها اليوم بهذا القدر.

لكنها قبل وبعد ذلك قضية قيم لم نرسخها في تعليمنا وفي سلوكياتنا وفي تصوراتنا. نحن نعاني من غياب أهمية العمل كقيمة مركزية تمنح المرء الاستقلالية والكرامة، لكنها أيضا تعطي لحياته معنى.

هذا في حد ذاته سلوك خطير يهدد مستقبل مجتمعنا بشكل جدي. لا يمكننا أن نبني المستقبل بمجتمع ينبذ العمل ويبحث عن الهبات المجانية. لا يمكننا أن نبني بلدا متطورا، بمجتمع لا يؤمن بالعمل كقيمة مركزية وجوهرية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]