في هذه الأيام العصيبة، وبقلبٍ مثقل، باشرت العمل على وظيفة أكاديمية في مساقٍ لحقوق الإنسان. واجهتُ صعوبة كبيرة في التوجّه إلى موضوع الوظيفة مباشرةً دون التطرّق إلى ما جرى في الآونة الأخيرة، كما استعصى علي كتابة الوظائف والدّراسة في هذه الأوضاع المأساوية، منذ استشهاد الطّفل محمّد أبو خضير حتّى العدوان على غزّة. واجهت صعوبة في الحديث عن حقوق الإنسان في نفس اللّحظة التي تقوم بها إسرائيل بالدّوس على الإنسان قبل الحقوق. وفي نفس اللحظة تذكّرت المواثيق الدّولية لحقوق الإنسان التي وقّعت وصادقت عليها إسرائيل، وإعلانها عن الحفاظ عليها والالتزام بها. تذكّرت الميثاق للقضاء على كافّة أنواع التمييز العنصري، وسياسة إسرائيل تثبت يومًا بعد يوم براعتها في التمييز العنصري. تذكّرت الميثاق ضدّ التعذيب وضدّ أي تعامل أو معاقبة غير إنسانية وغير أخلاقية، ومرّت أمامي صور آلاف المعتقلين والمعتقلات من داخل زنازين الاحتلال.. وتذكّرت غيرها وغيرها من المواثيق الدّولية التي قامت إسرائيل بالتوقيع والتصديق عليها.. وضحكت.

أسبوع بعد استشهاد الطّفل محمّد أبو خضير، زرتُ عائلته، الغضب والألم خيّما على المكان والزّمان.. شعرت أنّني في أكثر مكان آمن في العالم، على الرّغم من التوتّر الذي ساد في المكان، التوتّر الذي ساد بسبب أعداد جنود الاحتلال الهائلة. لم أحتمل دموع والدته، وما قالت عنه، لم أقاوم دموعي، انفجرتُ بالبكاء. لم أكف عن التفكير به أيّام عدّة وحتى هذه اللّحظة التي تخط بها يداي هذه الكلمات. لم أكف عن التفكير كيف لبشر أن تقوم بخطف طفل وتعذيبه وحرقه حيًّا. لا، ليسوا بشرًا، بل حيوانات متوحّشة بهيئة بشر! لم أكف عن التفكير بمحمّد، بمحاولاته الفكاك من بين أيديهم، والكلمات الأخيرة التي نطق بها، وما مرّ عليه من لحظة اختطافه حتّى استشهاده، تخيّلت تعابير وجهه، لغة جسده، ألمه، صرخاته.. أو ربّما فقد القدرة على الصّراخ، فقد القدرة على مناداة أمّه، ولو للمرّة الأخيرة في حياته.. وفقدته أمّه!

لم يكن كافيًا أن يفقد أبّ وأمّ ابنهم بجريمةٍ بشعة، بل كان عليهم المثول أمام الشرطة يوم الجّريمة، للتحقيق لساعاتٍ وساعات.. وكان عليهم سماع واستيعاب أكاذيب مشينة بحقّ ابنهم الغالي. وكان على طارق، ابن عم الشّهيد، أن يُضرب بوحشيّة من قبل جنود الاحتلال، وجريمته أنّه استاء وثار لمقتل ابن عمّه، كما جميعنا. ولوهلة، ظننت أن المحكمة سوف تتخذ إجراءات ضدّ الجنود المجرمين، لكن.. طارق هو المجرم، هو المعتدي، وهو من عليه أن يُعاقب ويُبعد ويُغرّم.. هذا ما أقرّته المحكمة وما نطق به القاضي.

وبدأ العدوان الغاشم على غزّة.. أو ازداد العدوان على غزّة. إدانة المجازر والعدوان الصهيوني الإسرائيلي، كفيلة بإدانتك أنت على أنّك تدعم الإرهاب. نعم، أن تطالب بالحقوق الإنسانية، وهي نفس الحقوق التي يطاب منك، وشرعي جدًّا، أن تكتب عنها وظيفة في الأكاديمية الإسرائيلية، تصبح هنا محرّمة، والمطالبة بها تبيح الإرهاب، أن تطالب بوقف جرائم الحرب إرهاب، أن تدعو إلى وقف إراقة الدّماء وإنهاء الاحتلال وإطلاق سراح الأسرى وإزالة جدار الفصل العنصري وعودة اللاجئين، والمطالبة بمثول إسرائيل أمام المحاكم الدّولية الجنائية إرهاب، وأن تطالب بحياة طبيعية كالحياة، التي فقط سمعنا عنها نحن الفلسطينيين، إرهاب.

كيف من الممكن المساواة بين الطّرفين، كيف من الممكن المقارنة بين المحتل (الفاعل) والمحتل (الواقع تحت الاحتلال)؟ وقد كرّرت المُحاضِرة في مساق حقوق الإنسان أنّه لا يمكن المساواة بين الضحيّة والجلّاد. فقد أودى هذا العدوان إلى استشهاد وإصابة الآلاف من المدنيين الأبرياء، معظمهم أطفال ونساء، وهم ليسوا مجرّد أرقام، هم بشر، لديهم قصص، أحلام، طموحات، أصدقاء، عائلات، وهذا ما ينبغي علينا أن نتذكرّه دائمًا، وعلينا أيضًا أن نتذكّر أن إسرائيل هي من قصفت وقتلت وشرّدت ودمّرت، وأنّها هي الطّرف الواحد والوحيد المسؤول عن هذا العدوان.

على الإعلام الإسرائيلي، بوق حكومة الاحتلال أن يكفّ عن التبرير أن بعض النّاس ممن لا علاقة لهم قد قُتلوا، وأن لا يعتذر عن ذلك، لأنّهم في الأساس يريدون قتل المدنيين الأبرياء لمجرّد أنهم فلسطينيّون. آه عفوًا، أربعة أطفال كانوا يلعبون على الشاطئ، لقوا حتفهم جرّاء خطأ ارتكبه جندي الاحتياط.. فلم يقصد إيذاءهم، القذيفة كانت موجهة نحو حديقة الألعاب.. أو المستشفى.. أو المسجد! والأهم من ذلك، على الإعلام والحكومة الإسرائيلية الكفّ عن تسمية العدوان باللّغة العبرية "مفتساع" (بالعربي عرض أو عمليّة، وهي محاولة وصف عمل لا إنساني بعمليّاتي)، لا أفهم بالضبط ماذا تحاول إسرائيل الترويج له أو بيعه هنا؟ شهيد وجريحان هديّة؟ يا لوقاحة المحتل..

علينا أن لا ننسى أن هذا العدوان ليس بجديد، وأن غزّة تحت الحصار والاحتلال منذ سنوات وسنوات، تسيطر إسرائيل على حياة السكّان، تتحكّم بالهواء الذي يدخل إلى غزّة ويخرج منها. والآن، بعد إعلان التهدئة ووقف إطلاق النار، ما هو ليس حتمي أيضًا، بدأت الناس بالعودة إلى منازلها، أو بالأحرى إلى ما لم يتبقَ من منازلها، الحصار لم ينتهِ بعد، الدمّ لم يجفّ بعد، رائحة الموت تخيّم على المكان، أشلاء بين الحطام، شهداء تحت الأرض وفوقها، وجرحى بين الموت والحياة.. حياة ليست كالحياة.

هذا وكلّه يجب علينا أن ندفع ثمن جرائم إسرائيل، أن نهلّل لإسرائيل على جرائمها، أن نجرّم حماس ونعترف بأنّها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وأن نفرح لصورة الفلسطيني الإرهابي، غير الإنساني التي ترسمها إسرائيل، تصوّره كارهًا للحياة وعبدًا للموت.. وهي من جعلت موته أرحم وأعظم.. وهي من جعلته سيّد الموت وبطله.. وهذا أعظم ما في حياته! تريدنا إسرائيل أن نكون حلفاء لها في إقصاء غزّة عن الشّعب الفلسطيني.. ولكن ما هو صعب على إسرائيل استيعابه من عدوانها على غزّة وانتفاضة العالم ضدّها، هي حقيقة أن فلسطينيي الدّاخل والضفّة وغزّة وسوريا ولبنان والأردن وفي كل بقعة من بقاع الأرض، كلهم جزء من الشعب الفلسطيني ومن القضية الفلسطينية، وكلهم قابعون تحت نفس المؤسّسة العسكرية الدّموية التي تُحاصر وتقتل وتدمّر وتشرّد في غزّة، والمستمرة في جرائمها ضدّ الشّعب الفلسطيني منذ عام الـ 48، كما النّكبة مستمرّة حتّى اليوم.. العدوان على غزّة هو عدوان ممنهج وموجّه لكل فلسطيني متجذّر في أرضه ولكل فلسطيني حُرِم من البقاء في أرضه ووطنه!

لا، لن نقبل نظرات الإسرائيلي التي تقول أنّنا مخرّبون وأنّنا مسؤولون عن سياسة إسرائيل الدّموية، سنواجهها بنظرات أشدّ حدّة وقسوة، نظرات تذكّره بجرائمه وأفعاله المشينة، وتذكّره بانهزامه.. ولا، لن نرضى بالكذبة الكبيرة التي ألّفتها إسرائيل أنّها الدّولة الأكثر ديمقراطية في الشّرق الأوسط، وأنّها واحة الحريّات والمصدّرة الأولى لحقوق الإنسان، وهي أكبر قامعة للحقوق.. ولا، لن نهاب التحدّث بلغتنا، في الشّوارع وفي الحافلات وفي المرافق العامّة.. لن نرضى بسماع الشتائم والتصريحات العنصرية ضدّنا دون الرّد اللائق الذي لا يريد الإسرائيلي سماعه.. لن نرضى بأن يمرّ سائق سيّارة أجرة آخر ويتفوّه: "لا داعي للقلق، فأنا لست عربيا".. ونحن نعي تمامًا ممن علينا القلق.. نعي تمامًا من يخطف ويعذّب ويحرق أطفالنا أحياءً!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]