يعتبر هذا العدوان الثالث منذ الحصار، والذي فيه تشن إسرائيل حربًا إجرامية على غزة، في محاولة لتفعيل عمليات انتقام كبيرة على الشعب الأعزل ليقوم بالضغط على حماس والتنصل منها أو حصارها سياسيا أو سحب الشرعية عنها. وقد دخلته إسرائيل دون أن تمتلك بنك أهداف خاصا بها، ومع جهل مطبق بالذي ينتظرها. لقد كان قتل المدنيين الفلسطينيين قاعدة أهداف ثابتة للحروب المتتالية التي شنتها إسرائيل، وأبدا لم يكن "قتل الأبرياء" خطأ في العمليات الإسرائيلية، لأنه دون الأبرياء ( وغزة كلها أبرياء، بمدنييها ومقاوميها)، تبدو غزة في حصارها كوكبا من الفضاء لا تعرف عنه إسرائيل شيئا، ودون استهداف الأبرياء لا شيء تفعله إسرائيل في غزة.
لكن المعارك لا تفهم بمجرياتها فقط، بل بالمعنى السياسي الذي نعطيه نحن لها، وهوة الوعي الشاسعة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أوقات الحروب والعدوان هي ليست أقل من هوة الوعي التي تحكم الطرفين فيما يتعلق بأوقات "الهدوء"، بمعنى أننا والإسرائيليين مختلفون في معنى " الصمود"، ومعنى "النجاح الحربي" أو العسكري، كما نحن مختلفون في معنى "السلام" ومعنى "العدالة" ومعنى "الإرهاب"، ومعنى "الاحتلال" والشرعية الأخلاقية والدولية.
تحاول إسرائيل، وبالأخص منذ الإعلان عن توجهها نحو وقف أحادي الجانب للعدوان، رسم صورة انتصار، رغم تعريفها لأهداف عامة فضفاضة، ورغم جهدها في خفض سقف التوقعات منذ البداية. كما أنها تحاول حصار كل مديح أو إعجاب يأتي من قبل أي خبير أو صحفي، بصمود المقاومة، أو نوعية عملياتها، أو قدرتها التنظيمية، ويتم تحجيم التعامل مع نجاح المقاومة خلال فترة الحصار، بإبداع طرق للمواجهة القتالية، فالأنفاق، كما قال بعضهم دون ضجيج، ليست مجرد "فجوات تحت الأرض، بل إنها "اقتحام مجال"، حربي جديد، أي طريقة جديدة في المواجهة أو ما يسمى ب"غواصات اليابسة".
وتنسى إسرائيل، في ميزان الفشل/النجاح العسكري، أن المقارنة العسكرية بين المحتل والمقاومة غير متناظرة، بمعنى أن متطلبات النجاح العسكري الإسرائيلي كدولة صاحبة أقوى خامس جيش منظم في العالم، لا تتماثل مع متطلبات النجاح العسكري لمقاومة أبدعت أدواتها في ظروف حصار إجرامي.
كما تتعامل إسرائيل بغباء مطلق مع تعريف "حماس" كحركة إرهابية، وتتجاهل بغباء متعمد مدى التلاحم بين حماس كحركة تحرر وبين شعبها كمطالب بالحرية، وتعزو ببلاهة بؤس الحياة في غزة، ب"إرهاب حماس" وليس بمخطط الموت البطيء الناجم عن الحصار الإسرائيلي!
مقابل نجاح المقاومة، في صمودها، وفي قدرتها على التلاحم مع شعبها والعمل على الدفاع عنه، وفي قدرتها التنظيمية، - هل أحد يتوقع منها أكثر من ذلك؟ مثلا، التغلب على إسرائيل عسكريا؟- يقع نجاحها الأهم، والمختلف نوعيا عن حرب 2008-2009، وعدوان 2012، في نقطة جوهرية: أن ما كان قبل العدوان لن يكون بعدها، وأن هنالك فرصة لتغيير استراتيجي حقيقي لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته ومطالبه العادلة. فالإنجاز الأهم في هذه المعركة، هو الوصول لمفترق طرق يستطيع أن يعيد وينقل نوعيا القضية الفلسطينية إلى المركز كقضية تحرر وطني ونضال شعبي ومقاومة شرعية.
نقطة التحول هذه ممكنة، لأن المقاومة نجحت في كسر قواعد وبديهيات سياسية استطاعت إسرائيل فرضها على شعبنا الفلسطيني وعلى القضية الفلسطينية لحوالي عقد من الزمان، وهي:
1. أن إسرائيل تستطيع الحفاظ على "وضع احتلال قائم وغير مكلف"، بوجود السلطة الفلسطينية وبالتنسيق الأمني معها. وأن "الوضع القائم" الذي وضعته إسرائيل هدفا لها، والذي يحمل "حياة طبيعية" للإسرائيليين، مقابل "موت بطيء" للفلسطينيين هو وضع بالإمكان الحفاظ عليه دون تغيير.
2. أن إسرائيل تستطيع حسم أي خلل "للوضع القائم" عسكريا، وأنها لا تحتاج لأي تعاطي سياسي جدي في القضية.
3. أنها تستطيع حصار غزة ليس فقط جغرافيا وماديا، بل تستطيع عزلها عن الضفة، والتعامل معها ك"قضية إرهاب".
هذا الصمود العسكري هو نجاح سياسي لحماس، يقابله فشل إسرائيلي: عدم قدرة إسرائيل "القضاء على المقاومة"، أو "توجيه ضربة قاضية لها"، أو "ضمان فترات طويلة من الهدوء"، أو حتى إعطاء أدلة أنها نجحت في "القضاء على جميع الأنفاق"، وهي الأهداف العسكرية التي تكفل "الأمن الإسرائيلي" وفق المنظور الإسرائيلي الحالي.
لكن إسرائيل، أدركت هي الأخرى أننا أمام نقطة تحول، وأن ما كان قبل العدوان لا يستطيع أن يكون بعده، وأن الهدف الاستراتيجي الإسرائيلي السابق وهو "العودة إلى الوضع القائم"، أو معادلة " الهدوء مقابل الهدوء"، لم يعد مجديا، وأن إسرائيل لم تعد تستطيع العيش تحت "الخطر الدائم والمستمر للمقاومة"، فبدأت فورا بنقل المعركة من المستوى العسكري للمستوى السياسي، دون أن تنسى في الطريق تورية فشلها العسكري والاستخباراتي، ورسم صورة نصر تستند على "ضرب الأنفاق"، و"إلحاق ضربة كبيرة في قوة حماس وقدرتها على إنتاج الصواريخ".
لقد أوصلت المقاومة إسرائيل إلى الاعتراف بأنها تحتاج "لهدف سياسي"، ولخلق "آفاق سياسية جديدة"، و"خيارات سياسية جديدة". لكن كما مع نفسية المحتل المتغطرس، يبقى يبحث عن كل الخيارات السياسية إلا تلك الواضحة وضوح الشمس والمتعلقة بحقوق وإنسانية من يقمعهم، ويستمر في البحث عن خيارات يوحيها له "المعتدلون". فتقرأ وزيرة القضاء أنها تستطيع التنسيق مع المثلث المصري الإماراتي السعودي، وبالتعويل أولا على تعاون السلطة الفلسطينية لخلق مسار سياسي يضرب المقاومة ويعزلها.
ويقع المحتل مرة أخرى فريسة غبائه، مصورا لنفسه أن يستطيع أن يستند إلى صمود المقاومة لضربها، وأن الظرف السياسي يسمح له ضرب المقاومة كاستمرار طبيعي لنجاح مقاومتها!
ويعول المحتل على قدرته في تحويل واقع "حكومة المصالحة الوطنية"، بعد أن لم يستطع إفشالها، كوسيلة لإضعاف حماس، استنادًا لنصيحة خرقاء لأنظمة "الاعتدال" العربي.
بالتالي تخرج إسرائيل من فشل عسكري متوهمة أنها تستطيع تحويله إلى نجاح استراتيجي، ويلخص بعض محلليهم أنه رغم "الأهداف المحدودة التي وضعتها لنفسها خلال المعركةـ إلا أنه خلقت ظروفا لبلورة وضع استراتيجي جديد في غزة"، وأن هذا الوضع الاستراتيجي يعتمد على شرعية الدولية لضرب الإرهاب من جهة، وعلى "الأصدقاء العرب" من جهة ثانية. أما الوضع الاستراتيجي الجديد فيتلخص في تحييد المقاومة وضربها سياسيا، تحت مطلب "نزع السلاح عنها"، وهذا صلب التفاهمات الحالية التي تريدها إسرائيل مع مصر ومع السلطة الفلسطينية.
هذا السيناريو، نابع من سوء فهم للواقع السياسي الجديد الذي أنتجته المقاومة، والذي يفرض على السلطة الفلسطينية التعاطي معه، من باب حقوق شعبها، وليس من باب مخططات قامعها، وإلا فإنها تكون تنتحر سياسيا.
تتعامى إسرائيل عن حقيقة أنه لا مقاومة دون شعب، وأن نجاح المقاومة هو في تلاحمها مع أحلام وآلام شعبها، وأن إسرائيل لا تحارب المقاومة بل تحارب شعبا كاملا تمثل مقاومته أحلامه وأمانيه في التخلص من القامع.
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
ךחנח יעי ועןו