تتأهب تركيا لموعد الانتخابات الرئاسية يوم الأحد القادم، حيث ستجرى الجولة الأولى من الانتخابات، على أن تجرى الجولة الثانية بعدها بأسبوعين في حال فشل أي مرشح في حيازة خمسين في المئة من الأصوات زائد واحدا. في هذه الحالة سيدخل المرشحان الحاصلان على أعلى الأصوات جولة الإعادة المقرر أن تجرى يوم 24 أغسطس/آب الجاري، ليفوز بالانتخابات المرشح الحاصل على أكثر الأصوات. يلزم المرشح طبقاً للدستور التركي أن تكون سنه أربعين عاماً أو أكثر في تاريخ الانتخابات وأن يكون حاصلا على مؤهل جامعي ويملك الشرائط اللازمة للترشح للبرلمان (ليس بالضرورة أن يكون عضوا في البرلمان الحالي)، ولكن يتعين على المرشح الحصول على توقيعات عشرين عضوا بالبرلمان لاعلان ترشحه. تجرى هذه الانتخابات الرئاسية للمرة الأولى باقتراع مباشر من الشعب، طبقاً للاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي قدمه حزب «العدالة والتنمية» الحاكم العام 2007، وكان الرؤساء الأتراك ينتخبون سابقاً من نواب البرلمان مباشرة. يتنافس ثلاثة مرشحين في الانتخابات الرئاسية 2014: رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء الحالي واليميني صاحب الطموح العارم، وأكمل الدين إحسان أوغلو السكرتير العام السابق «لمنظمة التعاون الإسلامي» الأكاديمي الوسطي، وصلاح الدين دميرتاش عضو البرلمان التركي عن حزب «الديمقراطية الشعبية» واليساري المغمور.

تاريخ الانتخابات الرئاسية التركية

عرفت تركيا منذ تأسيس الجمهورية العام 1923، الرؤساء التالية أسماؤهم: مصطفى كمال أتاتورك في الفترة من 1923 حتى 1938، وعصمت إينونو في الفترة من 1938 وحتى 1950، وجلال بايار في الفترة من 1950 وحتى 1960، وجمال غورسيل في الفترة من 1961 وحتى 1966، وجودت سوناي من 1966 وحتى 1973، وفخري كوروتورك 1973 حتى 1980، وكنعان إفرين من 1982 وحتى 1989، وتورغوت أوزال من 1989 حتى 1993، وسليمان ديميريل من 1993 حتى 2000، وأحمدت نجدت سيزر من 2000 حتى 2007، وعبد الله غول من 2007 وحتى 2014. بخلاف رؤساء موقتين حلوا محل رؤساء متوفين أو مقعدين حتى نهاية المدة الرئاسية، مثل مصطفى عبد الخالق ريندا الذي تولى المنصب ليوم واحد بعد وفاة أتاتورك وقبل انتخاب عصمت إينونو، وإبراهيم شوقي أتاساغون الذي حل محل جمال غورسيل لأسباب صحية لمدة شهرين، وإحسان صبري شاغلايانغيل الذي حل محل فخري كوروتورك بعد الإنقلاب العسكري، وحسام الدين شيندورك الذي حل محل تورغوت أوزال بعد وفاته وحتى نهاية ولايته لفترة شهر واحد فقط العام 1993.

اليساري المغمور

يعد صلاح الدين دميرتاش مرشح «غيزي بارك»، أي الانتفاضة الشهيرة التي عرفتها اسطنبول العام 2012 للاحتجاج على هدم حديقة بهذا الاسم، وتطورت لتشمل احتجاجات واضطرابات هي الأعنف في تاريخ حكومة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم اعتراضاً على سياسات أردوغان. يحظى دميرتاش الناشط الحقوقي بتأييد الأقلية الكردية في تركيا ودوائر اليسار المعادية لتوجهات أردوغان الشمولية والمحافظة. ولد دميرتاش في ديار بكر ذات الغالبية الكردية العام 1973، ودرس الحقوق في جامعة أنقره. يبني الشاب دميرتاش على نفور قطاعات تركية من الطابع الشمولي المتزايد لشخصية أردوغان، وكتب موقعه الإلكتروني لحملة دميرتاش الانتخابية أن أردوغان «لا يعكس التعددية والتنوع التركيين». يشتكي دميرتاش من انحياز الإعلام التركي الرسمي لأردوغان وبالأخص قناة «تي أر تي» الرسمية، برغم حقه كمرشح رئاسي في أوقات بث متساوية. نقطة الضعف الرئيسية في حملة دميرتاش أن دوائر المصالح الاقتصادية الكبرى في تركيا لا تحبذه وتفضل أيا من أردوغان أو إحسان أوغلو عليه، وهو ما ينعكس في التبرعات الهزيلة لحملته الانتخابية والتي لم تتجاوز مليون ليرة تركية. يجسد «نداء من أجل حياة جديدة» شعار حملة دميرتاش الانتخابية، المهمة في رمزيتها السياسية، لأن دميرتاش مرشح الأكراد واليسار الراديكالي ـ بحسب كل استطلاعات الرأي التي أجريت في تركيا ـ يحل في المرتبة الثالثة بفارق كبير بعد أكمل الدين إحسان أوغلو. على كل حال، لن يبقى دميرتاش مغموراً بعد الانتخابات الرئاسية، إذ سيصبح بعدها وبغض النظر عن النتيجة أحد رموز الحياة السياسية التركية.

الوسطي الأكاديمي

ولد أكمل الدين إحسان أوغلو في القاهرة العام 1943 لعائلة تركية، درس العلوم في جامعة عين شمس وتخرج منها العام 1966. حصل على الدكتوراه من أنقره العام 1974 وتخصص في العلاقة بين العلم والدين وتاريخ العلوم وعمل أستاذا زائرا في جامعات تركية وأوروبية. بعدها عمل لمدة عشر سنوات سكرتيرا عاما «لمنظمة التعاون الإسلامي»، كأول تركي يشغل هذا المنصب. نقطة القوة في حملة إحسان أوغلو ليس سجله السياسي، إذ لم يعرف عنه نشاط سياسي حزبي طيلة حياته، وإنما لكونه مرشح المعارضة التركية ممثلة في حزب «الحركة القومية» اليميني وحزب «الشعب الجمهوري» اليساري في مواجهة أردوغان. عند إعلان ترشح إحسان أوغلو لمنصب رئاسة الجمهورية التركية، خرج كمال كيليشيدار أوغلو زعيم حزب «الشعب الجمهوري» على الأتراك يداً بيد مع دولت باهشلي زعيم حزب «الحركة القومية» ليقول: «نقترح اسما سيوافق عليه كل شخص وسيصنع نموذجا بسمعته وإخلاصه وعلمه وخبرته: أكمل الدين إحسان أوغلو». سيحصل إحسان أوغلو على أصوات المؤيدين للحزبين، وربما أيضاً على أصوات إسلامية لم تعد ترى في أردوغان رمزها المفضل. ولقدرته النظرية على استمالة أصوات إسلامية، فقد قرر حزبا المعارضة ترشيحه في إجماع نادر بينهما. وفقاً للمعطيات القائمة، فقد ضمن إحسان أوغلو ـ على الأرجح ـ المركز الثاني في السباق، وربما يفجر المفاجأة ويدخل دورة إعادة مع أردوغان. ببساطة يمكن القول ان إحسان أوغلو هو مرشح اللحظة أو المرة الواحدة، إذ لا شعبية مخصوصة لديه وجاء ترشحه لاعتبـارات تكتيكـية وتوافقـية وليس لحيثياته الشخصية في حد ذاتها.

اليميني الطموح

ولد رجب طيب أردوغان العام 1954 في مدينة ريزه الساحلية على البحر الأسود، لأسرة ذات أصول جورجية. عمل أبوه في خفر السواحل التركية وانتقلت عائلته إلى اسطنبول وعمر رجب طيب حوالي ثلاثة عشر عاماً، فعمل بائعاً متجولاً للسميط والليموناضة، كي يعاون نفسه على تكاليف معيشته. تخرج أردوغان من جامعة مرمرة في كلية التجارة والاقتصاد العام 1981، وقبلها من مدرسة «إمام خطيب» الدينية. دخل أردوغان حلبة السياسة مبكراً، وصعد أول درجات السلم مع توليه منصب محافظ اسطنبول خلال الفترة الواقعة بين 1994 وحتى 1998. دخل رجب طيب السجن لترديده أبياتاً من الشعر، اعتبرتها المحكمة متصادمة مع الأسس العلمانية للجمهورية، وهناك في السجن اختمرت فكرة الانفصال عن معلمه نجم الدين أربكان وتكوين حزب إسلامي معتدل. فاز حزبه في الانتخابات البرلمانية العام 2003، ومن وقتها يشغل أردوغان منصب رئيس الوزراء.

إذا فاز أردوغان بالرئاسة كما هو راجح، فسيقوم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم الذي يملك الأغلبية في البرلمان باختيار بديل له في رئاسة الوزراء، وربما تجرى انتخابات برلمانية مبكرة (مقرر لها منتصف حزيران 2015) لحسم تشكيلة البرلمان وهوية رئيس الوزراء القادم. إذا خسر أردوغان الانتخابات الرئاسية فسيظل محتفظاً بموقعه كرئيس للوزراء ولا حاجة دستورية له كي يستقيل من منصبه بغرض الترشح لانتخابات الرئاسة. المرجح أن يتداخل أردوغان كرئيس للجمهورية في الشأن السياسي بفعالية، على خلاف الرؤساء السابقين، وهو لم يخف أبداً طموحه القاضي بتعديل النظام السياسي التركي لتصبح تركيا دولة رئاسية وليست برلمانية كما هو الحال الآن. ما زال أردوغان متمتعاً بتأييد واسع من جمهور حزب «العدالة والتنمية»، وبمساندة الشطر الأكبر من النخبة الاقتصادية التركية التي تراه مرشحها المفضل.

الخلاصة

لن تؤثر نتيجة الانتخابات الرئاسية التركية في سياسية تركيا الخارجية في حال فوز أردوغان، إذ ستستمر سائرة في إطارها العثماني الجديد بوجود أردوغان في الرئاسة وبترشيح رئيس جديد للوزراء يرضى عنه أردوغان ويسير في ركابه. ما سيتغير حكماً هو تشكيلة النظام السياسي التركي، الذي سيميل أكثر فأكثر إلى النظام الرئاسي وليس البرلماني، وإلى شخصنة متزايدة للسياسة لم تعرفها تركيا منذ وفاة مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك. ستلعب نسبة الأصوات التي سيحرزها أردوغان في الانتخابات الرئاسية القادمة مؤشراً على سرعته في إحداث التغيير بالنظام السياسي التركي نحو الجمهورية الرئاسية، إذ كلما زادت الأصوات المؤيدة له ارتفعت وتيرة التغيير المرتقب. وسواء اختلفت أم اتفقت مع أردوغان وسياساته، سيشكل فوزه بانتخابات الرئاسة التركية فصلاً جديداً من تاريخ النظام السياسي التركي وسيدخل أردوغان التاريخ بوصفه أحد أكثر الزعماء السياسيين إشكالية وطموحاً في تاريخ الجمهورية التركية. بدوره، يجسد طموح أردوغان السياسي مفارقة نادرة، إذ كلما تحقق ذلك الطموح وترسخت تلك الشخصنة السياسية وتماهى النظام السياسي مع شخصه، اقتربت تركيا أكثر فأكثر من السياق العام في الشرق الأوسط!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]