ليس مصير قطاع غزة وحده بل مصير الحاضر الفلسطيني برمته قد يدخل منعرجا جديدا وتحريرا لو اندلعت انتفاضة فلسطينية جديدة في الضفة الغربية.
ستقلب هذه الانتفاضة كل الحسابات الاسرائيلية رأسا على عقب وتعيد الامور الى المربع الاول والاصلي: احتلال عسكري كولونيالي وشعب مُحتل يثور ضد ذلك الاحتلال.
وستربك مثل هذه الانتفاضة الاستراتيجية الاسرائيلية العسكرية الحالية ضد قطاع غزة القائمة على الاستفراد والاستفادة من "الهدوء" الذي اتاحته مرحلة اوسلو العقيمة في الضفة الغربية. صحيح ان انتفاض الضفة الغربية لم يعد سهلا بعد سنوات التنسيق الامني الطويلة والعمل المتواصل على "تعقيم المقاومة" هناك، لكن ذلك لا يعني ان ذلك لم يعد خيارا.
احتمالية هذا الخيار ما زالت قائمة لأن فتح واجيالها الجديدة تحتاج الى نفض ثوري حقيقي وتجديد حتى تلحق بالمقاومة الكبيرة في قطاع غزة، وحتى تُستعاد البوصلة الوطنية مرة ثانية، لماذا الحاجة إلى انتفاضة ثالثة؟
السبب الاول هو تصحيح المسار الوطني العام خاصة بعد فشل مفاوضات السلام وبعد أن تبدى ان إسرائيل ليست في وارد تقديم اي حل للفلسطينيين حتى لو لم يلب ايا من طموحاتهم.
بعد اكثر من عشرين سنة مفاوضات، تعاقبت عليها حكومات اسرائيلية عديدة، وادارات اميركية متلاحقة، يجب ان يكون قد ثبت للقيادة الفلسطينية ان المفاوضات بشكلها الحالي، ومن دون اي ضغط دولي (وليس تركها للاحتكار الاميركي) هي انتحار سياسي ووطني للفلسطينيين وتذرية لما تبقى من حقوقهم الوطنية.
خلال عقدين من المفاوضات فرضت اسرائيل منطقها التفاوضي وهو التفاوض بعيدا عن الشرعية الدولية وقراراتها، وعدم قبول اي طرف ثالث نزيه او شبه نزيه يشارك فيها.
الموقف الاميركي، والعربي من ورائه مع الاسف، يقوم على مقولة نقبل ما يتوصل إليه الطرفان، وكأن الطرفين متكافئان في القوة والندية.
الانتفاضة الثالثة وعلى خلفية الصمود الكبير للمقاومة في قطاع غزة معناها التقاط فرصة غالية لتوحيد الموقف الفلسطيني على قاعدة جديدة وعملية وهي رفض الاحتلال ومقاومته بعد ان فشلت المفاوضات معه، وليس على قاعدة فرض المفاوضات واشتراطاتها الاسرائيلية على كل الاطراف الفلسطينية.
عناد الإرادة الفلسطينية واداء المقاومة في قطاع غزة والمفاجآت التي صدمت اسرائيل وجيشها دفعت بكل الفلسطينيين في الداخل والخارج الى الالتفاف حولها، رغم التضحيات والثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون.
وكل ذلك دفع بالرئيس الفلسطيني ومنظمة التحرير والشرائح الاعرض في القيادات الفلسطينية لأن تتبنى مطالبات المقاومة بكونها حقوقا للفلسطينيين في قطاع غزة، وعلى رأسها فك الحصار. الالتفاف التضامني والسياسي حول تلك المطالب يعني انه في مقدور القيادة الفلسطينية في هذه اللحظة ان تفرض مساراً جديدا، وان تتحدث لغة جديدة، وان تعيد "فلسطنة" الاجندة وعدم تركها للتنافسات الاقليمية، بل إعادة توجيهها بالاتجاه الصحيح والوطني.
السبب الثاني الذي يبرر الحاجة الى انتفاضة ثالثة هو إعادة القضية الفلسطينية إلى الاجندة الاقليمية (المزدحمة بالصراعات والقضايا)، وحتى إعادتها إلى رأس قائمة القلق والاجندة الاسرائيلية.
في السنوات العجاف الاخيرة، وخاصة بعد الانقسام الفلسطيني، انخفض الاهتمام والقلق من القضية الفلسطينية من كونها القضية المركزية التي تواجه "الاجندة الاسرائيلية" إلى مجرد قضية مزايدات في سوق التنافس الحزبي بين التيارات والجماعات الاسرائيلية.
تحولت الحالة الاستعمارية الاكبر والاهم في النص الثاني من القرن العشرين وفي القرن الواحد والعشرين إلى بند على برامج الاحزاب الاسرائيلية، كل منها يريد ان يثبت لناخبيه انه اكثر تطرفا وتشددا كي يكسب اصواتا اكثر في اوساط "دولة الاستيطان" التي صارت تحكم وتتحكم في اسرائيل.
الانتفاضة الثالثة تكسر هذه الرتابة التي ندفع ثمنها غاليا وتعيد القضية إلى كل الواجهات بما فيها الاسرائيلية.
السبب الثالث، وربما يكون الاهم، الذي يفرض على الفلسطينيين الآن التحرك الانتفاضي في الضفة الغربية هو كسر "الأمر الواقع" الذي اشتغلت على تثبيته اسرائيل خلال سنوات ما بعد الانقسام الفلسطيني، وهو امر واقع مدمر بشكل هائل للحقوق الفلسطينية، وللارض الفلسطينية، وللفلسطينيين.
هذا الامر الواقع قام على ثلاثة مرتكزات: تعميق الانقسام، تعميق التنسيق الامني، وتعميق الاستيطان.
وقد اشتغلت الاستراتيجية الاسرائيلية على الحفاظ على هذه المرتكزات مع توفير غطاء سياسي ودبلوماسي يحميها وهو الاستمرار المتقطع لـ "عملية السلام"، تحت ستار ومظلة جولات المفاوضات العقيمة تضاعف الاستيطان، عددا وحجماً، إلى ثلاثة اضعاف منذ التوقيع على اوسلو.
وخلالها ايضا نجح التنسيق الامني في تفريغ الضفة الغربية من المقاومة وتحييدها عن الصراع، حتى المقاومة السلمية وغير العسكرية تم ضبط ايقاعها والسيطرة عليها حتى لا تتسع.
بالتوازي مع ذلك استمر الانقسام الفلسطيني الذي خدم اسرائيل خدمة جليلة ايضاً، وعملت هي بدورها على ترسيخه واستثماره، والسعار الاسرائيلي الذي تبع المصالحة الفلسطينية كان سببه ان ركيزة اساسية من ركائز الامر الواقع الذي ترتاح إسرائيل فوقه قد بدأت تهتز وفي طريقها إلى الانهيار.
والحرب الوحشية والإبادية التي اطلقتها اسرائيل ضد قطاع غزة هدفها الاساسي العودة بالأمور إلى "الامر الواقع".
كسر الامر الواقع معناه اجبار اسرائيل وداعميها الغربيين والعالم على مواجهة القضية الفلسطينية مرة اخرى، ودفعهم، وخاصة اسرائيل، لمواجهة استحقاقات تفرضها حقوق الفلسطينين في التحرر الوطني والاستقلال، أو تحويل الارض كلها إلى دولة واحدة لمواطنيها.
يجب أن لا يستمر الامر الواقع الذي جوهره ابارتهيد عنصري يكون فيه العنصر والجنس اليهودي متفوقا على الفلسطينيين الذين يعتبرون افرادا من الدرجة العاشرة وغير مكتملي الانسانية.
عبر استمرار الامر الواقع فإن اسرائيل تتملص من المواجهة المباشرة مع السؤال عن مصير الفلسطينيين: هل هم شعب تحت الاحتلال، هل هم مواطنون من درجات دنيا، أم ماذا؟
Email: [email protected]
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
we need peace we are fed up with uprisings!