كالثور الهائج، تضرب سلطات الاحتلال الإسرائيلي في طول الأراضي الفلسطينية المحتلة وعرضها، غارات على قطاع غزة، وحصارا لخليل الرحمن، وعمليات دهم وتفتيش، واعتقالات جماعية، واختطاف رهائن من أطفال ونساء المطلوبين والمطاردين، حواجز في عموم الضفة، ووحدات مستعربين تتوغل في عمق النسيج الفلسطيني، وقيادة مستنفرة على مدار الأربع والعشرين ساعة، وسيناريوهات تتطاير هنا وهناك، لا يضاهيها سوى حملة الاتهامات المزدوجة للسلطة وحماس، بالمسؤولية عن اختفاء المستوطنين الثلاثة.
ولا يشفّ السلوك الإسرائيلي الهمجي عن إحساس إسرائيل بأية خشية من ردات فعل فلسطينية أو عربية أو دولية على استباحتها للمدن والقرى والبلدات والمخيمات الفلسطينية، لكأنها مطمئنة إلى أنها قادرة على التنكيل بالفلسطينيين وأخذهم بأسلوب العقوبات الجماعية، دونما خشية من حساب أو عقاب، ودون انتظار محاسبة أو مساءلة، وهذا أمرٌ لا تلام عليه إسرائيل وحدها، بل يُلام عليه الفلسطينيون أنفسهم الذين تتقاعس قيادتهم عن الانضمام للمعاهدات والاتفاقيات الدولية بخصوص مجرمي الحرب وأعداء الإنسانية.
باعتراف إسرائيل، فإن المستوطنين الثلاثة، اختطفوا من قلب “المربع الأمني” الإسرائيلي في الضفة الغربية، وفي مناطق لم تطأها أقدام السلطة، لا أمنيا ولا إدارياً، وإن كان ثمة “تقصير” أمني، فإن إسرائيل بأجهزتها الأمنية، هي المسؤولة عن ذلك، ويكفي السلطة الفلسطينية أنها بلا صلاحيات، وأنها تمارس ما تسمح به إسرائيل من صلاحيات “الكناسة” و”الحراسة” وفي أضيق شريط من الجغرافيا الفلسطينية المحتلة، فلماذا كل هذا الاهتياج على السلطة وحماس، وأية أجندة سياسية يخفي وراءه؟
من الواضح تماماً أن حكومة نتنياهو، استشاطت غيظاً منذ أن تبدى لها فشل حملتها الرامية إلى “شيطنة” السلطة والرئيس، وتحميلها وزر فشل مهمة كيري ... واشنطن، والمجتمع الدولي، لم يأخذا بالرواية الإسرائيلية، فأسهبت إسرائيل في حملاتها الدعائية وفي نسج الأكاذيب وترويج الأباطيل عن السلطة و”أبو مازن” ... إلى أن جاءت حكومة الوفاق الوطني، فوجدت فيها حكومة نتنياهو ضالتها لتجديد حملتها، والقول بأن عباس اختار حماس بدلاً عن السلام، وأنها حكومة إرهاب لا يمكن لإسرائيل أن تتعامل معها، وأصدر نتنياهو تعليماته بوقف كافة الاتصالات مع السلطة، باستثناء الأمني منها، انسجاماً مع رؤية إسرائيل لهذه السلطة بوصفها “جيباً أمنياً” أو شريطاً حدودياً، لا أكثر ولا أقل... لكن إسرائيل تلقت لطمة ثانية من واشنطن والمجتمع الدولي، عندما أخفقت في إقناع مختلف العواصم الدولية بأنها “حكومة إرهاب” يتعين عزلها، فقد تتالت الاعترافات بالحكومة، وتوالت العواصم التي تعرب عن استعدادها للمضي في التعامل مع الحكومة الجديدة ودعمها، وفي ذلك فشل ذريع لـ “طاووس” السياسة الإسرائيلية: بينيامين نتنياهو.
وجاءت عملية اختفاء المستوطنين الثلاثة، لتعطي إسرائيل ذريعة جديدة، لتجديد حملتها على السلطة وحماس على حد سواء، ولتشن أوسع حملة هستيرية ضد المدن والقرى والبلدات والمخيمات الفلسطينية، ولتصيح في العالم من جديد: أنها حكومة الإرهاب المتدثر بقناع “الوفاق الوطني”، وسوف يتتالى هذا المشهد الدامي ويمتد، ربما لأيام وأسابيع عديدة قادمة.
حماس لم تعلن بعد مسؤوليتها عن عملية الاختطاف، هي لم تنف ولم تؤكد، بيد أنها أيدت وتؤيد هذا النمط من العمليات، وثمة جهة واحدة على الأقل أعلنت المسؤولية عن العملية هي “داعش – الضفة الغربية”، رداً على قتل الجنود الإسرائيلية لخلية تتبع لها في الخليل قبل عدة أشهر، وسواء أكانت حماس أم “داعش” فإن العملية تطرح الكثير من الأسئلة والتساؤلات: فإن كانت حماس هي الجهة المسؤولة، فإن السؤال حول توقيت العملية وأثرها على المصالحة الهشة سيطرق الأبواب بقوة، وثمة في فتح والسلطة، من سيقرأ توقيت العملية ومكانها، على أنه محاولة لتوريطها في صدام مفتوح مع إسرائيل، ووضع فتح والسلطة والرئاسة في أضيق الزوايا وأشدها حرجاً ... إما إن كانت “داعش” وراء الحادثة، فهذا يعني أن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي قد دخل حقبة “السلفية الجهادية”، وتلكم بكل المقاييس، مرحلة نوعية جديدة.
على أية حال، وأياً كانت هوية الجهة التي نفذت العملية أو الغاية من ورائها، فليس ثمة سلطة على وجه الكرة الأرضية، تمنح سلطات الاحتلال الحق في مقاربة الجرائم والعقوبات الجماعية بحق شعب بأكمله ... وعلى السلطة، أن تنتقل فوراً من خانة التبرير وخندق الدفاع وموقع التنسيق والتعاون الأمني مع الثور الإسرائيلي الهائج، إلى موقع الهجوم الدبلوماسي – الحقوقي، وأن تسّرع خطوات انضمامها لمحكمة لاهاي، وأن تشرع في مطاردة القتلة والمجرمين، وليكن ما يكون.
[email protected]
أضف تعليق