بات الفتور بل وحتى نوع من اليأس يدخل قلوب العديد من العرب والمسلمين الذين استبشروا خيراً من قدوم الربيع العربي، ربيع بنوا عليه الامال واستنهضوا به خبايا الأحلام والطموحات التي قمعتها عقود من الظلم وسنوات من الهزائم.
ولكن، هل بالفعل يجب أن يدب اليأس فينا وتتحطم الآمال أم يجب أن نضع الامور في إطارها الصحيح..؟ بداية، لا نحكم على نتائج الثورات في غضون فترة قصيرة، بل الثورات التي تؤسس لمفاهيم، مفاهيم جديدة تجابه مفاهيم مضادة حكمت سنوات وكانت واقعاً معاشاً في الخطاب اليومي، هذه الثورات وهذه المفاهيم الجديدة تحتاج لحيز من الوقت حتى تصبح واقعاً ناجزا يتغلب على العقود الماضية من سيطرة أنظمة شمولية كانت فيها هي الدولة وهي المجتمع وهي من تحدد طبيعة المفاهيم وطبيعة الخطاب.
فمع عامل الوقت الذي يجب أن نراعيه وأن لا نستعجله لإتمام هذه الثورات مسارها، يجب على الواقعية أن تؤخذ حيزها في قراءتنا وإدراكنا لصعوبات الانتقال والتحول من أنظمة مستبدة مستفيدة من مقدرات البلد ومسيطرة على مفاتيح خزائنها ومفاصل قوتها، أنظمة تهب لمن تشاء العطايا والمزايا وتمنع عن من تشاء الحياة والحرية، إلى دولة مؤسسات يسيّرها قانون وناموس متخذاً العدل أساساً للحكم والحرية مفهوماً والعدالة الاجتماعية واقعاً معاشاً محترمة دين وهوية أبنائها، أقول تحول كهذا ليس بالأمر الهين وبالقطع سيجابه بقطيع من المعارضين من المنتفعين والمستفيدين من الدولة المستبدة انفة الذكر- هؤلاء المستفيدون هم من داخل الدولة ومن خارجها- هؤلاء لن يقبلوا بالتنازل عن ما يملكون بسهولة وسيسعون لتقويض كل تغيير يمكن أن يهز أركان دولتهم العميقة وعلى جموع الأمة أن تعلم أن ربيعها لم ينتهي مع إسقاط الأنظمة بل بدء وقتها لأنه حينها بدء البناء الصعب.
هذه الدولة العميقة هي التي في مصر وهي الموجودة في ليبيا ويتأكد وجودها في تونس وغيرها، هذه الدولة تسعى لإفشال ربيع العرب وجعله بالوعي الجمعي للأمة خريف دمار وهدمٍ للدولة واستنزافٍ لمقدراتها، وبالتالي يتبدل الحال ليكون تطلعاً للنظام القديم أو أزلامه كونه جالباً للاستقرار.
الأمر الثالث، أن هناك دولاً غير الدول العربية المتحررة تعيش في المحيط هذه الدولة لن تألُ جهداً لإفشال تجارب الربيع العربي خوفاً من وصولها إليه أو خوفاً من صعود تيارات تنهض بالأمة من سبوتها وتسعى لتحرر شعوب المنطقة وعليه تسعى لإفشالها قدر المستطاع.
الأمر الرابع في سياق قراءة مشاهد الربيع العربي يبرز حجم الشقة بين الفصائل الذين كانوا بالامس القريب شركاء الثورة .
ليس العيب في الاختلاف ولا حتى الخلاف بل العيب الظاهر في حجم المنافسة الاقصائية السياسية بين تلكم الفصائل مبنية على احقاد وأضغان، وسعي كل فصيل لفرض إرادته على الاخر ليحصّل على مكاسب أكثر منه .وهنا يقع اللوم على هذه الحركات الثورية أنها لم تنسجم على مشروع بناء الوطن بالتشاركية الحقة مما يؤخر تحقيق تطلعات الثورات.
الأمر الخامس يكمن في التطلعات الاقتصادية المفرطة التي تصورتها شعوب المنطقة، ظانة أن الربيع العربي سيجلب معه عصاً سحرياً يخرج بها الدولة من حالة العوز أو الانهاك الاقتصادي أو حتى التقسيم غير العادل للثروة إلى العدالة الاجتماعية والوضع الاقتصادي المزدهر وأن يكون ذلك بين عشية وضحاها وكأن الثورة تحمل المعجزات وليس التحديات.
الأمر السادس، هو عدم احترام قواعد اللعبة وهنا يكمن الخطر، فاليأس من قواعد اللعبة التي نجحت لحدٍ ما في دولٍ أخرى وهي القائلة بشرعية الصندوق والاحتكام له وقبول رأي الناس والارتضاء به، فهذا هو الذي يمكن أن يؤسس لبناء أنظمة ساعية لإرضاء الشعب من خلال تحقيق طموحاته وتطلعاته انفة الذكر.
وهنا يبرز التساؤل هل الأمة بالفعل تسعى للحرية، العدل, العدالة الاجتماعية وإرساء دولة القانون والتداول السلمي للسلطة.. أم هذا حلم وردي وشعارات برّاقة ؟. تثبت تجربة الربيع العربي بالانتفاض على الأنظمة المستبدة السابقة على وجود هذه المفاهيم في عقلية وذهنية الشعوب لحدٍ ما .... ولكن يجب أن تنتقل هذه المفاهيم من طور الفكر إلى طور الممارسة والتطبيق.. وهذا ما نحتاجه بشكل كبيرٍ بهذه المرحلة.. ناهيك عن حاجتنا الدائمة لتثبيت هذه المفاهيم التي تحاول مفاهيم أخرى مزاحمتها على أذهان الشارع العربي، مفاهيم الاستقرار والأمن كمتطلبات أفضل من الحرية وأثمانها، هذه الاثمان التي يجب السعي أن تكون بأقل تكلفة وعبئ وذلك يكون من خلال تكاتف أبناء الشعب وإدراكه لحجم المخاطر وتلاحمه لتجاوزها والصبر للخروج معاً بقارب النجاة.
والتساؤل الأخير في سياق الربيع العربي: هل تريد الشعوب رئيساً وقائداً قوياً تحلم به منذ عقود أم تريد رئيساً عملياً كفؤ يحمل برنامجاً لإدارة البلاد محترماً لقيمة الحرية وحقوق الانسان، ويبدو أن هذان الخياران سيستمران بالتصارع أحياناً تغلب الكاريزما وفي أخرى الاداء كما هو الأمر عند الشعوب الأخرى.. ولكن عند الشعوب الأخرى- أو بعضها- تكون قاعدة الانطلاق في الاختيار بين الرئيس صاحب الكاريزما أو صاحب البرنامج الجيد قاعدة واحدة وهو احترام كليهما للتداول السلمي للسلطة واحترام مبادئ الحرية والعدل، وهذا ما يجب أن نسعى أن يكون عندنا.
أخيراً أرى أن الأمة حالمة ولكن هذا الحلم يمر بعثرات في طريق تطبيقه منها الممكن تجاوزه بسهولة ومنها الأصعب وهذا هو الأمر الطبيعي والذي يحدث مع كل الشعوب في المعمورة ومع هذا فإن النور في اخر النفق ما زال يظهر ولن يكون وهماً، وإن تأخر الوصول له.. لأن المسيرة قد بدأت.
[email protected]
أضف تعليق