في أواخر نيسان، عندما قمت بالاستعداد لزيارة عائلتي في قرية الفريديس – الفردوس باللغة الفارسية - سمعتُ عن إعلان القيام بإضراب شامل في القرية احتجاجاً على الاعتداءات الأخيرة لجماعة "تدفيع الثمن" المتطرّفة على إحدى مساجد القرية، حيث قامت هذه الجماعة الإرهابية ليلة 28 نيسان برسم "نجمة داوود" وكتابة شعارات معادية مثل "أغلقوا المساجد وليس المدارس التلمودية" على جدران مسجد الرحمة، وقد قام أيضاً هؤلاء اليهود المتطرفين بتنفيس العشرات من إطارات السيارات في المنطقة، وتم تصوير هذه الأعمال الارهابية من خلال كاميرات المراقبة التابعة للمسجد.

وفي اليوم التالي قامت القرية بإضراب شامل، وعندما وصلتُ هناك وجدتُ جميع المحلات التجارية، والمطاعم، والمقاهي –التي تجذب العديد من الزبائن من سكان المستوطنات اليهودية المجاورة- مغلقة تماماً، وقد كان رد فعل أهالي القرية على هذه الاعتداءات مفاجئاً للسلطات الإسرائيلية.

فما كان من العديد من المسؤولين الإسرائيلين بمن فيهم مجلس الوزراء والرئيس شيمعون بيرس نفسه بالتضامن مع أهالي قرية الفريديس وبإدانة هذه الاعتداءات ، وقد اعتبر بعض المسؤولين هذه الاعتداءات "أعمال إرهابية"، وقد قدّم أيضاً الرئيس بيرس اعتذاراً شخصياً لأهالي القرية بالنيابة عن “الشعب الإسرائيلي” موّضحاً فيه "أنّ هذه الأعمال الدنيئة تعارض عقيدة وأخلاق اليهود"، وقد وضّح بأنّ اعتداءات جماعة "تدفيع الثمن" تتنافى تماماً مع “مصالح المواطنين الإسرائيليين.”

اعتذارات مخادعة

هناك سببان رئيسان لا ينبغي تفويتهما بالنسبة لإدانة أعمال الجماعة الإرهابية من قبل المؤسسه الاسرائيلية والإطار التي تبلورت فيه، أولاّ: الغاية من الإعتذار الذي قدّمه المسؤولون هو فقط التعتيم على المدى الواسع لأعمال العنف الممنهجة المرتكَبة من قبل دولة إسرائيل العنصرية ضد السكان الفلسطينيين الأصليّين في قرية الفريديس وفي في أماكن أخرى، وأكبر دليل على هذا هو محاولة نفس الجماعات المتطرفة باقتحام وتدنيس قدسية المسجد الأقصى المبارك مراراً بين الفينة والأخرى –طبعاً دون الحاجة للتذكير- تحت حماية الجيش وقوات الشرطة الاسرائيلية. في الواقع، ما تقوم به دولة إسرائيل من تمييز عنصري وحملات تطهير عرقية هو تماماً ما تسعى إليه الجماعات اليهودية المتطرفة لإنجازه على أرض الواقع ولكن ضمن بنود الصحيح سياسياً لأيديولوجية التعددية الثقافية.

وليس هناك حدثا يمكنه أن يوضح هذه النقطة أكثر من تصوير نتنياهو لهذه الاعتداءات الدنيئة لجماعة "تدفيع الثمن" الإرهابية واصفاً إياها "بأنها مقلقة ومعارضة لجوهرنا وقيمنا"، ولكن اتضحت الغاية من هذا الاعتذار المخادع من خلال قيام نتانياهو بعرض سن قانون عنصريٍّ يؤكد على أحقية اليهود في دولتهم فيما يسمى "دولة قومية للشعب اليهودي"، وبالتالي هذه القوانين لا يمكن تنفيذها إلا من خلال محو الوضع القانوني والحضور الجماعي للسكان الفلسطينيين داخل الخط الأخضر كأهالي قرية الفريديس مثلاً الذين صمدوا في أراضيهم منذ النكبة، حيث أنّ دولة كإسرائيل قائمة على العنصرية والعرقية لن تكفل لجميع "مواطينها" المساواة والديموقراطية الحقيقية.

مسيرات الغضب

السبب الثاني الذي لا يمكن تفويته لإدانة أعمال التخريب لجماعة "تدفيع الثمن" الإرهابية من قبل المسؤولين الإسرائيلين هو محاولة تشويه الغاية الحقيقية من حشد المظاهرات والإضراب الشامل وبشكل خاص من قبل سكان الفريديس، حيث كانت ردة فعل أهالي القرية قد هيّجت المواقع الإعلامية المحلية ووصفتها ب "مسيرات الغضب"، بالتالي كانت تأمل الدولة الإسرائيلية السيطرة على هذه الأخبار في أقربٍ وقتٍ ممكن من خلال اعتذارات واهمة لا مكان لها من الصحة، ويثبت هذا بشكل قطعي أن الإدانات الواهمة من قبل المسؤولين الإسرائيلين تثبت مدى فشل السياسات الإسرائيلية في محاولتها لطمس هويات الفلسطنيين الوطنية، وذكرياتهم، وتاريخهم. أما بالنسبة لقرية الفريديس بوجهٍ خاص، فإن الصمود أمام سياسات الطمس هذه تكتسب معنى خاص ، حيث كانت قرية الفريديس تعرف بأنها المكان الأكثر إذعاناً داخل الخط الأخضر وتستخدم منذ فترة طويلة كموقعٍ مثاليّ في خطابات التطبيع الإسرائيلية الرسمية.

إلّا أن هذا التمثيل الاسطوري لقرية الفريديس لا ينمّ إلّا عن مدى الألم الحقيقي لذكرى النكبة وتاريخ صدمتها التي ما زالت تلوح كأشياء طيفية في ذاكرة أهالي الفريديس. وقرية الفريديس هي القرية العربية الثانية – داخل الخط الأخضر – التي نجت من الحملات الصهيونية التطهيرية العرقية عام النكبة. ومن موقعها على سفح جبل الكرمل تطل قرية الفريديس على بلدة الطنطورة الساحلية – التي حدثت فيها مذبحة كبرى على أيدي كتائب لواء الأكسندروني ما بين 22 و23 أيار من عام 1948 بعد أسبوع من "إعلان استقلال" دولة إسرائيل- حالياً بعض أهالي بلدة الطنطورة مقيماً بقرية الفريديس والبعض الآخر مهُجَّر إلى الضفة الغربية وبلدان عربية أخرى.

لقد تركت مأساة النكبة بصمة في الوعي الباطني لأجيال المستقبل في الفريديس ، تلك البصمة التي ستجعل "عودة المكبوت " ممكنة لا محالة. أي بمعنى أخر يعود تاريخ التطهير العرقي وسياسة التهجير ليلاحق الفلسطنيين الحاليين – داخل الخط الأخضر – وخصوصاً في اللحظات التي يقع فيها المجتمع الفلسطيني فريسة هجوم جماعات يهودية إرهابية متطرّفة. ولهذا يمكن القول أن محاولات الحكومة الإسرائيلية الأخيرة في جذب شباب قرية الفريديس ومحاولة تجنيدهم لعزلهم عن بقية الفلسطينيين قد باءت بالفشل.

وبرموزها السياسية الواضحة اطلقت مسيره الغضب ناقوس الخطر للمؤسسه الإسرائيلية واللتي حاولت أن تقمعها وتمحيها . ولكن المتظاهرين قاموا بإيصال رسالة واضحة برموز مختلفة منها: رفع العلم الفلسطيني، وشعار رابعة، والأناشيد المتضامنة مع حصار غزة، والتكبير. وقد أحيت (مسيره الغضب) الذاكرة من جديد فنبّشت في ذكرى "عودة المكبوت " في مقاومة الإستعمار والصهيونية في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، وكذلك ابرزت إلى النور انتفاضة الأقصى عام 2000 والتي نزل حينها أهالي الفريديس إلى الشوارع للتظاهر ضد وحشية السياسة الإسرائيلية وأعمال العنف التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني.

قد يرتبط حماس أهالي قرية الفريديس برموز مسيره الغضب بالثورات العربية، أو ما يسمى "بالربيع العربي"، أو بحركات العدالة الإجتماعية المختلفة حول العالم. وفي الواقع، من الأسباب التي أدت أيضاً إلى هذا الغضب العارم في مسيرة أهل القرية هو مشروع الإسكان المقترح حديثاً (زهور الفردوس) والذي يواجه مشكلة في الأسعار الباهظة لملكية العقارات، حيث كان قد اجتمع أهالي القرية – قبل اعتداء "تدفيع الثمن" بثلاثة أيام – لإيجاد حلول لمشكلة العقارات، وفي المقابل قامت الحملة الانتخابية المحلية في قرية الفريديس بالتعهد لأهالي القرية بحل هذه المشكلة بالحصول على أرض للمشروع مقابل صفر شاقل ، ومع ذلك فإن الصراع لإنهاء الظلم الإقتصادي الواقع على أهالي الفريديس قد يتحوّل ليصبح السبب الأساسي (لمسيرات الغضب) المندلعة في القرية.

ليس من المتوقع أن نشهد اندلاع ثورة راديكالية في الفريديس في القريب المنظور – حيث أنّ الخطابات الدينية في المظاهرات نفسها تعتم أسباب الصراع الحقيقية – ولكن ربما في المستقبل يمكن إستعادة الفريديس سياسيا لإلهام للفلسطينيين المتواجدين داخل الخط الأخضر بضرورة العمل السياسي الجماعي من أجل النضال ضد الظلم الإقتصادي الواقع عليهم، والقضاء على مشاريع الإستيطان التوسيعية، والتخلص من السياسة الإسرائيلية القائمة على العرقية والعنصرية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]