ليست الديمقراطية مجرد جمل متراصة تصم الآذان وسلسلة من الممارسات الفجة، ولكنها فعل حيّ لا شيء يقتله مثل الأنانية المستشرية في الأوساط السياسية العربية. أكبر معضلة في الديمقراطيات العربية إذن ليست في الخطابات، ولكن في فكرة التداول lAlternance على السلطة التي تغيب بشكل شبه نهائي، بعد أن تمت مصادرتها عن سبق إصرار وترصد. التداول مفهوم مبسط ولا يفترض علما كبيرا، أن يقبل الذي فاز بالسلطة إمكانية أن يترك مكانه لغيره.
وأن هذا الغير الذي يأتي عن طريق السبل الديمقراطية، مالك أيضا للمؤهلات التي تسمح له بخدمة وطنه بطريقته. لكن أمرا مثل هذا يقتضي وجود دولة قادرة على لعب دور المنظم الحيادي الذي يحمي التداول على السلطة من كل الانحرافات. ويفترض أيضا مجتمعا مدنيا حيّا وخلاقا، يمنع من تكون الدكتاتوريات في الظلّ. المشكل في الوطن العربي هو أنّ كل شيء يتداخل.
من شدّة تعفن الأنظمة العربية واستمرارها في الحكم لدرجة التحلل، تتصور نفسها أنها هي الحافظ والضامن الأوحد لأمن ووحدة الوطن من كل الانهيارات التي تتهدده، لكن هذه الأنظمة تنسى بسرعة أنها هي من كان وراء هذا الانهيار الأكبر، عندما جيَّرت لمصلحتها مؤسسات الدولة ومحت من قاموسها فكرة التداول على السلطة، الضامن الكبير لتفادي تكون الدكتاتوريات والحكم المطلق، ومجموعات المصالح. لماذا يحدث هذا في الوطن العربي الذي فشل في خلق نموذج ديمقراطي يمكن أن يُحتذي محليا مثلما هو الحال في كل القارات؟ لآسيا نماذجها في اليابان والصين وكوريا وغيرها.
لأوروبا نماذجها الكبيرة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها التي جرّت وراءها أوروبا المتخلفة التي ظلت زمنا تحت الدكتاتوريات الميتة كإسبانيا والبرتغال، للأمريكيتين نماذجهما أيضا في الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين وغيرها. لإفريقيا، على الرغم من كل متاعبها وفقرها، نموذجها الكبير والمميز، في إفريقيا الجنوبية. في الوطن العربي، ينتفي حتى النموذج الباهت الذي يمكن أن يغرس أملا صغيرا في المستقبل. فالحاكم العربي لا يفرق بين عقلية الانقلابي الذي يأتي بواسطة الدبابة، أو حتى بواسطة الانقلاب الديمقراطي واعدا بالتغيير الشامل. فهو بمجرد وصوله لسدة الحكم ديمقراطيا؟
يمارس ما مارسه سابقه وربما أسوأ. تنتفي فكرة التداول على السلطة نهائيا.
أول شيء يقوم به هو إلحاق الدولة كمؤسسات، بسلطته، أي التماهي المطلق بين الدولة والسلطة. وحتى في المخيال الشعبي، يصبح التفريق بينهما غير وارد، فالدولة هي السلطة والسلطة هي الدولة. وإذن ليس غريبا، عندما يسقط نظام عربي أن تتبعه انهيارات عنيفة في نظام الدولة بكامله، لأنّ الطارئ، أي السلطة، يحتلّ مكان الثابت أي الدولة. فكيف يمكننا أن نتصور تداولا على السلطة في ظل هذه الأنانيات المستشرية التي لا ترى في الغير المنافس إلا خيانة عظمى وتبعية للاستعمار القديم، وهي تأكل في كل مساء على موائده وتنتظر بركاته حمايته. وقد يحدث أكثر من هذا كله، إذ تُسخر أجهزة الدولة لنفخ النظام العربي وتبرير وجوده.
وسائل الإعلام، الجيش وأسلاك الأمن، وجزء من المجتمع المدني، مسخرون كلهم لخدمة الحاكم، بدل الولاء المطلق للدولة ومؤسساتها. ثم إن الحاكم العربي، بمجرد وصوله إلى الحكم، عليه أولا أن يسترضي الذين قادوه إلى الكرسي. تتكون مع الزمن الدائرة الضيقة حوله بالمحاباة والمصاهرة والعلاقات العائلية والجهوية والقبلية الحامية، التي تبدو في الظاهر سياسية لكن في جوهرها، مالية وتشكّل قوة اقتصادية داخل النظام نفسه، بعد تحويل الدولة إلى مجرد قوقعة فارغة أو فزاعة يتم بها تخويف المنتفضين.
ويحدث طبعا أن تختلف أجنحة النظام، فتطفو بعض الفقاعات إلى الخارج، وكل جهة تتهم الأخرى، وتفضح ممارستها جزئيا، مع الحفاظ على خط رجعة يضمن الحفاظ على المصلحة المشتركة، ولا يصمت الطرفان إلا بعودة الترتيبات الجديدة الضامنة لطرفي الصراع. فالأموال المتراكمة داخل الجهاز الحاكم، أغلبها متأتية من الريع أو من النهب المنظم أو من السمسرة والخدمات وعمولات المشاريع الكبرى على حساب الدولة.
داخل هذا التكتل الذي لا شيء يجمعه إلا المال، تنشأ الأفكار لجعل النظام خالدا ومستمرا بسبب المصلحة السياسية والمالية، إلى يوم الانفجار الشعبي والانهيار الكلي للدولة الذي لا أحد يستبق نتائجه، من تحلل وتدمير لكيانات تاريخية عريقة. من هنا فالتداول لا يعني أكثر من ترك السلطة طوعا أو ديمقراطيا لمجموعة فازت بجدارة. لكن المشكلة الكبرى في العالم العربي، هي أن المجموعة الجديدة نفسها، في ظل الفساد المعمّم، تعيد، في الأغلب الأعم، إنتاج الممارسات نفسها.
قد تبدأ مثلا عهدتها بمحاكمة رموز النظام السابق، وتخيط لنفسها عذرية جديدة، ولكنها في النهاية لا تعمل أكثر من احتلال مكانها ولا شيء يتغير في النهاية. ما يثبت ذلك هو هيمنة جيل واحد على مقاليد السلطة المركزية. المتابع للشأن العربي يندهش كيف أن هذه الدول العربية لم تنتج رئيسا شابا واحدا خارج نظام التوريث، ولا رئيس حكومة حيوي بخبرته وذكائه، ولا وزير دفاع من الجيل الجديد المتعلم والمثقف؟
مع أن التداول يعني أيضا التشبيب وهذا ليس كلاما فضفاضا ولكنه فعل تاريخي يؤمن بأن المجتمعات تتطور ويجب أن تخرج من دائرة الجيل الواحد. لكن في النظام العربي، حتى عندما يبدأ التشبيب أو التعادلية بين الرجل والمرأة في مؤسسات الدولة، لا يخرج المقترح عن نفس المنطق إذ ليس المهم أن تكون المرأة مساوية للرجل في حريتها وفي قدراتها الإبداعية الخلاقة، ولكن مساوية للرجل في الولاء للنظام، أي أن تصبح صوته وصورته الأنثوية ومبرّر تخلفه وجهالته.
إلى اليوم، لم نسجل خبر استقالة رئيس عربي بمحض إرادته خارج ضغط المجموعات، وحضّر لانتقال هادئ نحو ديمقراطية ممكنة مثلما حدث في بعض الدول الإفريقية مثل الرئيس والشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور الذي استقال من منصبه في 1980 بعد أن ثبت التعددية من خلال التيارات المعروفة، من يسار تقليدي، وشيوعيين، وليبراليين، ومحافظين.
وعوضه وزيره الأول عبدو ضيوف بناء على المادة 35 من الدستور. ليغادر هو بدوره الحكم في مارس 2000 بعد انتخابات رئاسية جاءت بعبد الله وديع. لا أتحدث طبعا عن نيلسون مانديلا، الذي فاز في 1994 في الانتخابات الرئاسية، في ظل أوضاع معقدة كانت تتهدد البلاد بحرب أهلية بين أنصار المؤتمر الوطني الإفريقي ANC والزولو إنكاتا وأنصار الأبارتايد. وعندما انتخب رئيسا للبلاد بأغلبية ساحقة، عمل على إرساء سبل الديمقراطية والتداول على السلطة قبل أن ينسحب من الحكم بعد سنة واحدة فقط.
للأسف، لا حاكم عربي فكر في المرحلة الانتقالية وهو في الحكم ليزرع بذرة إيجابية في المسار الديمقراطي الصعب. حتى أصبحت إزاحة أي نظام عربي اليوم معناها انهيار الدولة أو ما تبقى منها.
لا بلد عربي يشذ عن قاعدة التفكك المتواتر الذي يلوح في الأفق ما دامت الأنظمة لا تراهن إلا على أنانيتها. وإذا كانت الرهانات الدولية تتحمل مسؤولية جزئية، في لعبها بالنار، فالأنظمة العربية تتحمل المسؤولية الكبرى لأنها هي من أشعل الفتيل بقتلها لأية بذرة للتحول الفعلي نحو ديمقراطية ممكنة.
[email protected]
أضف تعليق