لا شك في أن ما تعيشه النساء في بلادنا من ظلم واضطهاد وتعنيف لا يضاهى ولا يقارَن بواقع المرأة في أي مكان آخر من هذا الكوكب، اذ تبدو التقارير والاستطلاعات والدراسات التي تتناول هذه القضية مخيفة ومرعبة حيث نكتشف أن وأد المرأة لا يزال يُمارس بأشكال وأساليب متعددة متنوعة و»متعصرنة» تحت شعارات وتبريرات مختلفة يحتل فيها الدين المكانة الأولى رغم كونه براء من معظم الممارسات التي ترتكب باسمه خصوصاً من قبل أولئك الذين لا يجدون في المرأة سوى عورة يجب سترها!

لا نلوم النساء اللواتي يتحركن ويتظاهرن ويعتصمن ويرفعن الصوت عالياً لإقرار قوانين تجرّم العنف الأسري الذي يطاول المرأة على وجه الخصوص وفي الوقت نفسه لا يسلم من شره الأطفال وبقية مكونات العائلة بسبب سيطرة الفكر «الداعشي» على عقول كثيرة يرتدي أصحابها البدلات وربطات العنق، لكن ما نتمناه أن تتسع الدائرة لتتحول الى حراك واسع رفضاً للعنف المجتمعي برمته، اذ لا يمكن فصل ما تعنيه النساء عما يعانيه المجتمع.

وجميعنا نلاحظ كيف تحوّل العنف ظاهرةً طاغية في غالبية المجتمعات العربية الرازحة تحت أشكال مخيفة من القمع والاستبداد.

لعل أول ما ينبغي فعله في مكافحة ظاهرة العنف المستشرية هو دراسة أسبابها انطلاقاً من سؤال ملحّ فحواه لماذا تراجعت مجتمعاتنا عما كانت عليه في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، لماذا كانت المدينة العربية أكثر تمدناً وحداثة عما هي عليه الآن، والحداثة قطعاً ليست مجرد أبراج وفنادق وبنى تحتية على أهميتها، بل هي أولاً ذهنية وسلوك وممارسة يومية وعلاقة صحية بالآخر المختلف جندرياً ودينياً وعرقياً وفكرياً...الخ، والجواب على هذا السؤال يبدأ بمساءلة من تسلطوا على العباد والبلاد باسم الحرية والديموقراطية والعدالة والاجتماعية والمساواة ولا ينتهي بمساءلة المعارضات المختلفة التي كانت ولا تزال نسخاً مشوهة عمن تعارضهم، فضلاً عن التيارات الدينية القابل منها للجدال والنقاش بالتي هي أحسن، ولماذا لم تنتج أفكاراً ومفكرين متنورين يستنبطون الفتاوى المساهمة في تطور المجتمع وتفتحه عوض انقسامهم بين فقهاء للسلطان وفقهاء للظلام.

رغم خصوصية قضية المرأة وأرجحيتها وإلحاحها حيث نسمع ونقرأ كل يوم عن جريمة جديدة ترتكب بحق امرأة ما هنا وهناك وغالباً ما ينجو المجرم ويفلت من العقاب بحجج وذرائع واهية أبرزها «جرائم الشرف» التي يتساهل القانون حيالها كثيراً فيما المجتمع يعامل صاحبها كـ «بطل»، ويا لها من بطولة واهية عفنة.

اذاً، رغم تلك الخصوصية لا يمكننا فصل العنف ضد المرأة عن العنف ضد المجتمع بمختلف عناصره ومكوناته، وهنا لا بد أن نتوقف مجدداً ونعود الى ضرورة السؤال السالف عن أسباب العنف االمتغلغل في عقول الكثير من شبابنا الذاهب الى القتل والموت كأنه ذاهب الى نزهة أو حفلة سمر.

الأسباب أكثر من أن تحصى، لذا نكتفي الآن بالاشارة الى سبب قد يراه البعض عابراً لكننا نراه جوهرياً جداً يتعلق بالبيئة التي ينشأ فيها الأطفال والفتيان اليافعين حيث كل شيء محرّم وممنوع، وفي مقدم تلك المحرمات معظم الفنون التي تساهم في تهذيب الكائن البشري وتشذيب نزعات العنف الفطرية فيه وتحويلها الى نزعات خير وفرح وحب وجمال، اذ ماذا نتخيل النتيجة حين نمنع الاختلاط ونحرّم الموسيقى والغناء والسينما والمسرح والرسم والنحت وكل الإبداعات الانسانية التي لولاها لما تقدمت الأمم وما تهذبت الشعوب.

ان جيلاً ينشأ ويترعرع محروماً من كل ما يغذي الروح ويسمو بها الى أعلى لا بد له أن يفجّر طاقاته لاحقاً في غير موضعها الصحيح، خصوصاً متى توافر له دعاة ومفكرون يضيقون أمامه آفاق التفكير ويوسعون دوائر التكفير. فهل نحلم بالبدء من مناهج التعليم فنكرّس فيها تعليم مواد الفنون والجماليات لكي نسمو بعقول الأجيال ونرتقي بها الى أعلى؟

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]