في ظل عدم امكانية الحروب العسكرية الاستعمارية المباشرة المكلفة، نتيجة الاعباء الكبيرة التي ترتبت على حروب أميركا في العراق وافغانستان وفشلها في تحقيق أهدافها، عاد العالم الى الدخول سريعا في الحرب الباردة، لكن في اطار توازن دولي جديد، يعكس حالة التعددية الدولية والاقليمية التي تختلف بسماتها عن مرحلة نظام القطبين، أو نظام القطب الواحد، وما يجري في أوكرانيا هذه الايام من صراع غربي، روسي إنما هو ترجمة عملية لهذه الحرب الباردة، المحكومة بالتوازن الدولي الجديد.

لكن ماذا يعني هذا التوازن الدولي الجديد؟ وهل سيقود إلى يالطا جديدة؟ أم إلى عودة العالم إلى الحرب الباردة، لكن بسمات مختلفة عن تلك التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية؟ كل من يدقق في التاريخ ويتفحص ما حصل في يالطا بعد الحرب العالمية الثانية يدرك أن تسوية قد تمت بين المعسكرين الغربي بقيادة أميركا، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، قضت بتكريس ما حصل من نتائج عسكرية في الحرب لناحية خطوط التماس التي انبثقت عن المناطق التي وصلت إليها الجيوش الغربية من جهة، والجيش الأحمر السوفياتي من جهة ثانية، ومن ابرز معالمها جدار برلين الذي شكل الحد الفاصل على الأرض. وكان من الواضح أن الحرب الباردة لم تندلع فور عقد هذه التسوية وإنما احتاجت إلى عشر سنوات لاحقة، وقد انتهت هذه المرحلة من الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي.

على انه من المعروف أن الحرب الباردة في تلك المرحلة اتسمت بصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي على مناطق النفوذ التي كانت خارج خطوط التماس الناشئة من الحرب العالمية الثانية، وقد اتخذ الصراع فيها طابعا غير مباشر حيث كان كل معسكر يدعم حلفاءه في هذه المناطق.
أما اليوم فلا يمكن الحديث عن يالطا جديدة لان الصراع لم يعد صراعا ايديولوجيا وإنما بات صراعا مصلحيا، وهذا يعني اننا بتنا أمام واقع دولي جديد وحرب باردة جديدة يتسمان بالسمات التالية:

السمة الأولى: دخول العالم في مرحلة سياسية، أو حقبة جديدة، ترتكز إلى توازن دولي جديد، بدأ اليوم مسار ولادته بشل نظام الهيمنة الأميركي الأحادي القطب، وفرض بدلا منه توازنات دولية محكومة بعقد تفاهمات وتسويات من ناحية، (التفاهم حول البرنامج النووي الايراني)، واستمرار الصراع غير المباشر من ناحية ثانية (الصراع الغربي الروسي في أوكرانيا).

السمة الثانية: إن هذا التوازن الدولي الجديد لا يشبه أي نظام دولي قام سابقا، لأنه يقوم على اصطفافات وتوازنات دولية وإقليمية متعددة المصالح، وهذا يعني اننا لن نكون أمام عودة انقسام العالم إلى معسكرين غربي وشرقي، كما كان عليه الحال اثر انتهاء الحرب العالمية الثانية.

السمة الثالثة: في ظل التوازن الدولي الجديد أصبحت التدخلات العسكرية الخارجية غير ممكنة وسنشهد عودة إلى تنشيط دور مجلس الأمن الدولي على قاعدة احترام مصالح الدول الدائمة العضوية.

السمة الرابعة: يقلص التوازن الدولي الجديد من تأثير العامل الخارجي في الصراعات المحلية، التي تشهدها العديد من الدول، ما يعني أن مصير هذه الصراعات ستقرره التوازنات المحلية التي ستصبح هي العامل الحاسم في المنحى الذي ستتجه إليه، إن كان تسوية، أو حسما لمصلحة الفريق الذي تميل إليه موازين القوى بنسبة كبيرة.

السمة الخامسة: إن الامبرطورية الأميركية، زعيمة النظام الرأسمالي، دخلت فعلياً في مرحلة التقهقر والتراجع، التي بدأت بعد هزيمتها في العراق وفشلها في أفغانستان، ولم تعد قادرة على شن الحروب المكلفة والباهظة، نتيجة الأزمة الاقتصادية البنيوية التي تعصف بها، وتنذر بمزيد من التفاقم بعد أن فشلت في العودة إلى فرض هيمنتها على العالم والتحكم بموارده وحركته الاقتصادية لحل أزمتها الاقتصادية.

السمة السادسة: إن العالم دخل، منذ الآن، في حرب باردة جديدة سيتخذ فيها الصراع سمة غير مباشرة، وتكون فيها روسيا الرأسمالية أكثر هجومية في الدفاع عن مصالحها الحيوية الجيوسياسية التي تخص أمنها القومي، ولهذا سوف تعمل على استعادة مناطق نفوذها القديم، حيث يتواجد العرق السلافي ويصل نفوذ الكنيسة الأرثوذكسية، ولن تقبل بأي تسوويات مع الغرب في هذه المناطق.

السمة السابعة: إسرائيل ستكون اكبر الخاسرين من نشوء هذا التوازن الدولي، من ناحية لم تعد قادرة على شن الحروب بتمويل أميركي، ومن ناحية ثانية لم تعد تحظى بالغطاء الدولي الذي كانت توفره لها في السابق الهيمنة الأميركية على القرار الدولي.

السمة الثامنة: في ظل التوازنات الدولية الجديدة، التي تمنع التدخل الخارجي، تزداد أهمية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وتتوافر لها الظروف التي تمكنها من العودة إلى تزخيم نضالها وكفاحها ضد الاحتلال الصهيوني الذي استفاد في السابق من اختلال موازين القوى العالمية لصالح راعيته الأولى أميركا.

فكلنا يتذكر كيف أن النظام الدولي،الثنائي القطبية،الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، بين المعسكر الغربي بقياد أميركا من جهة، وبين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي من جهة ثانية، قد وفر هامشا من الحرية لحركات التحرر في العالم الثالث مكنها من تكثيف نضالها التحرري المسلح، والتحرر من نير الاحتلال والاستعمار الاجنبي، لا سيما في افريقيا والمنطقة العربية.

ويبدو ان التوازن الدولي الجديد المتعدد يتميز بسمة اضافية تصب في صالح الحركات التحررية الساعية للتحرر من نير الاحتلال والاستعمار، وهي أن الدول الاستعمارية أصبحت اليوم ترزح تحت وطأة أعنف ازمة اقتصادية ومالية في تاريخها غير قادرة على الخروج منها وتجاوزها من دون خفض مستوى معيشة مواطنيها، والعيش وفق قدراتها، لان هيمنتها الاقتصادية على العالم انتهت الى غير رجعة، بعد أن تقدمت دول أخرى منافسة لها، واحتلت مساحة من السوق الدولية، مثل الصين والهند والبرازيل وغير ذلك من الدول الناهضة اقتصاديا، وهو ما اقر به اخيرا وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]