يشتد ارتباك الغرب وتخبطه بالمواقف التي تبدو في ظاهرها متناقضة،ولكنها في العمق والجوهر هي مواقف تتخذ خدمة لهدف واحد عجز الغرب عن تحقيقه في سورية طيلة سنوات ثلاث من العدوان عليها، جرب خلالها معظم ما لديه من امكانات وما هو متاح من قدرات باستثناء العمل العسكري المباشر الذي لجأ الى التهديد به كورقة للابتزاز، ويحاول ان يبقيه سيفاً ضاغطاً يساعده على بلوغ مآربه التي تخلّف عن الوصول اليها حتى الان.
نقول هذا الكلام وفي ذهننا ما يحاول الغرب ان يمرّره في مجلس الأمن اليوم من قرارات « تحت عنوان الشؤون الانسانية «في سورية ويصر على اعتمادها تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة الذي يجيز استعمال القوة العسكرية للتنفيذ. وهنا اسئلة كثيرة تطرح حول الاسباب التي حملت الغرب على العودة الى هذه المحاولة المحكومة بالفشل سلفا مع وجود عاملين رئيسين يمنعانها من الوصول الى حيز الواقع والتنفيذ.
فالغرب يعرف جيدا،لا بل إنه بات على يقين، بان القتال في سورية هو بين محورين : محور يعتدي ليسقط الآخر الذي يعرف أنه ملزم بمواجهة باتت بالنسبة له حياة أو موتاً، واستقلالاً او استعماراً، ومحورملزم بعدم التراجع عن الدفاع المستميت واستعمال كل المتاح وتطوير قتاله الدفاعي حتى تلهب ناره كل مصالح الغرب في المنطقة، وهو اي محور المقاومة والدفاع - يملك من القدرات ما يخوله الخوض في معركة دفاعية ناجحة وشبه مضمونة النتائج.
كما أن الغرب يعرف أن روسيا، ومؤيدة أيضاً من الصين، باتت تنظر الى ما يجري في سورية بأنه شأن من شؤون الأمن القومي الروسي الذي لا يمكن لروسيا وباي حال التفريط في التعامل معه، خصوصاً وانها محكومة بعقدة ليبيا التي تعشش في رأسها وتؤرّقها باعتبارها خديعة غربية أوقِعت فيها فندمت، ولذلك لن تسمح بتكرارها، وتالياً فان المحاولة الغربية في مجلس الأمن هي حركة لن تصل الى نتيجة، ولن يكون هناك قرار تحت الفصل السابع، وهذا ما يعلمه الغرب، فلماذا اذن يحاول ؟
في البدء لا بد من التأكيد على أن فشل العدوان الغربي على سورية أدخل الغرب في حالة من الاختلال النفسي، خصوصاً وان الفشل جاء في ظل ما كانت أميركا تتصوره من نجاح في إقامتها نظاماً عالمياً بقيادتها الأحادية، تعتقد أنه يتيح لها تنفيذ ما تريد وحيث تريد، وتالياً فإن الفشل يأتي هنا بالنسبة لها خارج التوقع، كما أنها تجد نفسها عاجزة عن احتماله بعد أن سجلت نجاحات معتبرة في دول «الحريق العربي» الاخرى التي حولتها إلى دول فاشلة مشتتة، حيث دمّرت ليبيا وقسمت اليمن او تكاد، وزعزعت الأمن في مصر، ومنعت الاصلاح واستعادة الاستقرار في البحرين، وبعد هذا تجد نفسها عاجزة امام «سور دمشق العظيم «، في موقف لا تستطيع أن تتقبله.
لقد ذهب الغرب الى جنيف منذ عامين في ظل قراءة أميركية للواقع الميداني في سورية تمكنه من القول بانه انتصر، وبات بالامكان تسلّم السلطة وتحقيق الهدف من العدوان. وكعادته أدرج هذا البند المتعلّق بالسلطة في لائحة من البنود تضمنت ثمانية، سبعة منها يكاد لا يناقش فيها أحد وتبدأ بمحاربة الارهاب وتصل الى الشؤون الانسانية والمدنية، ولكن كانت غاية اميركا من اللائحة كلها بندها السابع، أي إقامة هيئة حكم انتقالي تحاكي مجلس الحكم الانتقالي العراقي الذي شكل بعد احتلال العراق. وعندما اصطدم الغرب بمعارضة روسيا والصين في «جنيفـ 1» تم اللجوء الى صيغة تتسم بـ»الغموض البنّاء»، وهو أسلوب مألوف في العمل الدبلوماسي يمكّن المتفاوضين من الوصول الى اتفاق حول صيغة حماّلة أوجه، ويترك لهم ان يفسروا الاتفاق كل حسب نظرته، اما الحسم النهائي للمعاني فيكون وفقا لموازين القوى في الميدان التي تحدد الاتجاه الممكن السير فيه في التفسير. لذلك استعملت في بيان «جنيف -1» عبارة الحكومة الانتقالية كاملة الصلاحية، وفسرتها روسيا على انها حكومة تأتي من ضمن الدستور ولا تمس بصلاحية الرئيس، وفسّرتها اميركا بأنها تسلّم للسلطة بكل مفاصلها بما في ذلك الرئاسة ذاتها.
ولأن الغرب يعرف أن فرض تفسيره بحاجة الى أرجحية في الميدان العسكري تناسبه، فانه ومباشرة بعد 30 6 2012، طوّر البيان وحشد كل الطاقات والامكانات المتاحة لزجّها في سورية، وعمل كل ما بوسعه في القتال والاحتيال والخداع والتهديد بالتدخل العسكري المباشر ولكن؟...
ولكن أخفق الغرب في كل مساعيه ومحاولاته وتمكنت سورية التي اعتمدت استراتيجية ناجعة في المواجهة التي انخرط فيها ميدانياً بعض حلفائها حزب الله من استيعاب الهجوم ثم الانطلاق الى استعادة ما كان خرج من يدها من مناطق، وسارت الامور ميدانياً في خط تصاعدي لصالح «محور المقاومة والدفاع» جعلت الغرب بالقيادة الأميركية يخشى على المستقبل فعاد الى «جنيف ـ 2» ممنيا النفس بتعويض دبلوماسي سياسي للاخفاق الميداني العسكري. نوصي باعتماد تسمية محور المقاومة والدفاع بعد التطورات والمهام الاخيرة.
وفي «جنيف ـ 2» وكما بات معلوماً، حبكت اميركا المشهد منتجة بيئة ظنتها انها ستخنق سورية بالضغط عليها ومحاصرتها حتى تسلم او تستسلم، لكن سورية أذهلت الغرب وعلى رأسه اميركا، أذهلتهم بقدراتها السياسية والدبلوماسية، حتى والاستثمار الاعلامي للموقف، وأضافت الى خيبتهم في الميدان خيبة في السياسة والدبلوماسية. وهنا فشلت أميركا مرة أخرى، نقول في جنيف فشلت اميركا ولا نقول فشل مؤتمر «جنيف ـ 2»، والفرق كبير بين التعبيرين، لأن في جنيف نجحت سورية في تعرية العدوان والمعتدين والدمى التي يستعملها وتحمل هويات سورية، وفشلت اميركا في فرض جدول أعمالها على المؤتمر ببند وحيد هو «تسلّم السلطة» فنجح «جنيف ـ 2» في إظهار الحقائق وفشل في تمرير الخديعة الاميركية، وسيستمر الفشل الاميركي في «جنيف ـ 2 ًحتى تسلّم اميركا بالواقع وتعترف بأنها هزمت.
هذا الفشل الاميركي المؤكد في «جنيف ـ2»، دفع الغرب بقيادة أميركية، للعودة الى مجلس الأمن والظهور بمظهر من يدور في حلقة مفرغة. وقد جعل الاختلال المعنوي والارتباك الغربي، دول الغرب العدواني على سورية تعود سنتين ونصف الى الوراء وتذهب الى مجلس الأمن. وأن ما يجري الان من مشاورات هناك يذكر بمشهد مماثل جرى في صيف 2011، اي بعد ستة أشهر على انطلاق العدوان وفشله في إسقاط سورية، مشاورات انتهت الى مشروع قرار سقط بالفيتو الروسي ـ الصيني المزدوج، والحال ذاته سيتكرر الآن، ويكون الغرب خرج من الساحة صفر اليدين مرة أخرى.
ومن جهة أخرى نجد غرابة في أمر هذا الغرب الاستعماري ومكابرته، ففي الوقت الذي تعترف مراكزه البحثية والاستراتيجية ومواقع الدراسات لديه كلها بان الرئيس بشار الاسد انتصر استراتيجياً قلنا هذا الامر منذ 9 أشهر تقريباً ومباشرة بعد العمل بـ» استراتيجية الاسد» وتطهير القصير ، وفي الوقت الذي تنصح المخابرات الاميركية وتوحي لكل من يستمع اليها بأن عليه أن يبدأ بالتعامل مع فكرة انتصار الرئيس الاسد وبقائه في الحكم لان الشعب يريده،وفي الوقت الذي باتت دول من مكونات جبهة العدوان تتحسس رقابها خوفاً من أن يعود اليها إرهابيوها الذين صدّرتهم الى سورية، لأن عودتهم باتت احتمالا قائماً اذا لم يقتلوا في الميدان او يستسلموا، وفي الوقت نفسه نجد تصرفات وسلوكيات غربية معاكسة توحي بأن الغرب مصر على العدوان والقتل والتدمير وتجربة مسارات عقيمة النتائج أو مسدودة الأفق.
إن التعنت الغربي هذا، والمكابرة المصحوبة بمناورات احتيال ومخادعة تتقنها المجموعة الانكلوساكسونية التي تقود الغرب الآن في ظل قبول لاتيني بالتبعية، وتهيب جرماني عن احتلال مركز في قمرة القيادة، يبرر جيداً سلوك سورية وحلفائها، وبشكل مركب متعدد الاساليب والاتجاهات، ففي السياسة سعي الى الممكن ولا يقفل باب يفتح عملاً بسياسة «استغلال الفرص وسد الذرائع «، ولهذا، وبرغم علمها بأن دمى ما يسمى «الائتلاف المعارض» الذي لا وزن له ولا يمثل احدا في سورية، فان الدولة السورية لم تستنكف عن مفاوضته واسقطت بذلك زيف ادعائه انها ترفض الحل السلمي، وفي الميدان فانها تعمل على خطين: بارد سلمي، وحار قتالي، وحيث تجد ان للتفاوض والحوار والمصالحة إمكانية للتطبيق فانها تعمل بها وقد نجحت في اكثر من منطقة وحيث تجد الباب مقفلا فانها تفتحه بنار أسلحة الجيش العربي السوري وحلفائه، نار لا
تستهدف إلا الإرهابيين والخارجين على القانون.
[email protected]
أضف تعليق