بداخلي عدة أصوات لا صوت واحد. كل صوت يمثل جانبا من مكوناتي كإنسان. كل صوت يمثل مرحلة عمرية مختلفة ويحمل في نبراته موروثا تربويا أو مكتسبات فكرية تراكمت على مر السنين.

هذا الصباح اختلطت تلك الأصوات في رأسي حين همس صوت قائلا: هل لاحظت أن نجاح الصين في آخر مغامراتها على سطح القمر مر من دون أن يغطيه الإعلام الصيني باستفاضة؟ الصين تعمل بهدوء شديد.

وعلى الفور تذكرت أن الصين استعمرت أسواق العالم بصادراتها بهدوء حقا.. ثم منحت القروض بسخاء للولايات المتحدة إلى أن تأتي اللحظة المناسبة لتقول للولايات المتحدة قومي لكي أجلس على مقعدك.

بعد نجاح آخر التجارب الصينية على سطح القمر أعلنت اليابان أنها سوف تزيد ميزانية الدفاع بقدر خمسة في المائة بدءا من العام المقبل. فقد عاشت اليابان تحت مظلة الحماية الأميركية زمنا، فهل تخاف اليوم من أن تكون أميركا غير قادرة على حمايتها مستقبلا؟ وهل نسيت الصين أن اليابان احتلتها وأوقعت بها ذلا ما بعده ذل في الماضي؟ فماذا يمكن أن يجري إذا قررت الصين في مستقبل قريب أو بعيد أن «تجر شَكَل اليابان» بخصوص بعض الجزر المتنازع عليها؟ هل تهم الولايات المتحدة بالزئير لتخويف الصين كما جرت العادة؟

هنا ارتفع صوت ثان قائلا: لا تفرحي في الولايات المتحدة، فالصينيون أكثر تجبرا من الأميركيين، وإن أصبحت الصين هي القوة العظمى تذكري أن عدد السكان يفوق عدد الأميركيين أربعة أو خمسة أضعاف. ولن يكون أحد آمنا من جحافل تزحف زحفا على دول العالم للاستيلاء على ما تبقى من ثروات.

ثم تدخل الصوت الثالث قائلا: منذ أقل من نصف قرن كانت الصين دولة فقيرة مثقلة بالمشكلات. ثم ضموا الصفوف وعملوا بلا كلل وتحملوا تقليص الحريات وتقنين القوت وتقنين الإنجاب وهاجروا إلى بلاد الله بحيث أصبح في كل دولة هاجروا إليها مركز إنساني لخدمة الصين دون غيرها. وها هي النتيجة. سوف يصبحون أسياد العالم في السنوات الـ10 المقبلة.

وهنا ارتفع صوت آخر: ماذا تقصدين؟ هل هذا إسقاط على وطنك مصر؟ ألا يكفيك معاناة يعيشها الرجل المصري البسيط؟ أتريدين تقنين قوته وتقنين المتعة المجانية الوحيدة في حياته؟ ألا يكفيك هلاك شباب يهاجر على مراكب في البحار للبحث عن فرصة ثم يبتلعه البحر؟ وإن وصل إلى مقصده يعيش خائفا على أطراف مجتمع الهجرة ويقبل كل الأعمال الدونية. يا شيخة ارحمي من في الأرض يرحمك من في السماء.

وقبل أن أذكر نفسي بما علمتني إياه نشأتي الأسرية التي كان شعارها الدائم «إحنا ما لناش في السياسة» و«فكري في دروسك وبس» أسعفني صوت أخير. كان صوتا يضحك ببساطة قال:

رجل الشارع الأميركي لا يهتم بالسياسة أيضا. السياسات الخارجية تقرر خلف أبواب مغلقة على أساس مصالح اقتصادية وتحالفات شيطانية، ثم يوهمه السياسيون بأنه محظوظ لأنه أميركي يمكنه أن يشتم الرئيس ويشتري لأولاده الآيس كريم وتركب زوجته إلى جواره سيارة فارهة. ولذلك أتمنى أن يقنن كم الآيس كريم الذي يتناوله الأطفال هناك، وحجم السيارات الفارهة التي يركبها آباؤهم. ولكن أكثر ما أتمنى هو أن تتلقى الـ«سي آي إيه» لكمة توقعها أرضا بحيث لا تقوم لها قائمة.

قمت من مجلسي ولسان حالي يقول للأصوات المتناحرة: اسكتوا. أنا ما ليش في السياسة، سكتت الأصوات وغبت في مدارات أفكاري فتصورت أن الصين قد تنشئ منفى على سطح القمر على غرار غوانتانامو. ثم ترسل إلى المنفى الخارجين على القانون الصيني الذي لا يسمح بالاحتجاج أو المطالبة بحقوق الإنسان أو نهي الدول الكبرى عن سرقة موارد الدول الصغرى.

قبل أن يجرفني الحزن على أحوال الدنيا تمنيت أن أسمع بعض الأصوات التي تتناحر داخل رءوس الآخرين. تمنيت أن أقول لوالدي، رحمه الله، أنا ما ليش في السياسة ولكن ما بال السياسة تحاصرني عن يميني وعن شمالي ومن فوق رأسي إلى أن تسربت إلى داخله؟

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]